اعداد الشيخ
عبدالله بن محمد بن خنين
المقدمة
إٍنَّ الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أَنفْسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يهد الله فلا مضل له، ومَنْ يضلل فلا هادي له، وأشهد أَن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أَنَّ محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، أما بعد:
فإذا كان أصول الفقه يهدف إلى بيان كيفَّية استنباط الأحكام الكليَّة من مصادرها الشرعَّية - الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وغيرها -، وكان الفقه هو محصلة هذا الاستنباط، وهو حكم على أفعال العباد بوجوب، أو حرمة، أو كراهة، أو استحباب، أو إباحة، أو صحة، أو بطلان، أو ثبوت ملك، أو رفعه، أو ضمان، أو نفيه - فإنَّ فن تنزيل الأحكام على الوقائع - موضوع بحثنا - يضبط طريقة تطبيق الحكم على الواقعة.
ولتنزيل الأحكام على الوقائع قواعد وأصول ضابطة تعين القاضي والمفتي على التطبيق الصحيح للأحكام الشرعَّية على الوقائع؛ قضائيَّة أو فتويَّة وتقيه بتوفيق الله - عزّ وجلّ - من التخبط والزلل، كما يحتاج القاضي فيه إلى معرفة الحكم الكلي الملاقي للواقعة، وتفسيره، والواقعة القضائيَّة المؤثرة، وإثباتها، وتفسيرها، وطريقة تنزيل الحكم الكلي عليها، وهذا ما عُنِي به هذا البحث في الجانب القضائي، ويتبعه الجانب الفتوى.
ولا بستغني القاضي والمفتي عن الوقوف على أصول هذا الموضوع - تنزيل الأحكام على الوقائع - وأحكامه، وهو بمثابة أصول الفقه للمستنبط المقرّر للأحكام الكليَّة، فهو يضبط اجتهاد القاضي والمفتي في تنزيل الأحكام الكليَّة على الوقائع؛ قضائيَّة أو فتويَّة، كما يضبط أصول الفقه اجتهاد الفقيه المستنبط من الأدلة كتاباً وسنة وغيرهما.
كما أن الوقوف على أصول هذا الموضوع وأحكامه مما يعين على صقل ملكة التطبيق لدى القاضي والمفتي لتُهيِّئ صاحبها لتنزيل الأحكام الكليَّة على الوقائع، فتكون ملكة قارَّة قادرة على الاهتداء لأحكامه، وإدراك الأحكام العارضة له، فيهتدي لمعاقده، ويتنبه لفروقه لإتقانه أصوله ومآخذه، وكثرة نظره فيه، وتردده في ممارسته حتى تكون مباشرته عنده سهلة ميسرة، وذلك من أنفس ما يُحصِّله المتدرب في كل فن، وهو من أنفس صفات متلقي الأحكام الشرعيَّة لتنزيلها على الوقائع في الفتيا والقضاء؛ لأن ثمرة كل علم تطبيقُه.
والحاجة ماسّة إلى معرفة هذا الفنّ - تنزيل الأحكام على الوقائع فتوَّيّة أو قضائَّية - وجمعه في بحث، مما يعين المفتيين والقضاة ومن في حكمهم على أداء عملهم فيذكر المنتهي ويبصّر المبتدي.
ويشترك القضاء والفتيا في أنهما تطبيق للأحكام الكليَّة على الوقائع الجزئيَّة، وأحكامُهما في الجملة من جهة تنزيل الأحكام متشابهة ولكنّهما يفرقان في أمرين:
الأوّل: أن الفتيا مبنيَّة على الثقة بقول المستفتي مع وجوب التحرّز من الحِيَل، أمّا القضاء فلا بدّ فيه من ثبوت الوقائع بطرق الحكم المعتدّ بها.
الثاني: أن القضاء يلزم بصدور الحكم، أمّا الفتيا فلا يحكم المفتي فيها بإلزام المستفتي.
لذا كان خطابي في هذا البحث موجّهاِّ إلى القاضي، لأن نظره في الواقعة أوسع، فهو ينظر فيها كما ينظر المفتي، وزيادة على ذلك ينظر في ثبوت أسباب الواقعة وما يعارضها، ويصدر حكمه بالإلزام بها، وعلى مريد الفتيا لحظ الفرق بينهما على نحو ما ذكرنا عند الإفادة من هذا البحث.
وقد نظمت الكلام فيه في مقدمة، وتمهيد، وأربعة مباحث، وخاتمة، وبيان ذلك على النحو التالي:
التمهيد:
المبحث الأول: الحكم الكلي، وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أقسام الحكم الكلي، وتحليله.
المطلب الثاني: صفات الحكم الكلي.
المطلب الثالث: تحديد الحكم الكي وبناؤه على الأصول.
المطلب الرابع: تفسير الحكم الكلي.
المبحث الثاني: الواقعة القضائية، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: أهمية الواقعة القضائية، وأقسامها.
المطلب الثاني: تعريف الواقعة القضائية المؤثرة، وشروطها.
المطلب الثالث: تنقيح الواقعة القضائية؛ المراد به، ووسيلته، ومراحله.
المطلب الرابع:إثبات الواقعة القضائية.
المطلب الخامس: تفسير الواقعة القضائية.
المبحث الثالث: أصول تنزيل الأحكام على الوقائع، وفيه تمهيد، وخمسة مطالب:
التمهيد: المراد بأصول تنزيل الأحكام على الوقائع، وبيان ثمرتها.
المطلب الأول: الأصل الأول: النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع.
المطلب الثاني: الأصل الثاني: مراعاة مقصد الشرع وحكمة التشريع.
المطلب الثالث: الأصل الثالث: مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص.
الطلب الرابع: الأصل الرابع: مراعاة الضرورات والحاجات.
المطلب الخامس: الأصل الخامس: مراعاة درء الحدود والقصاص بالشبهات.
المبحث الرابع: وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية، وطرقة تقريره، ومراحله، وقيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية.
المطلب الثاني: طريقة تقرير تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية. المطلب الثالث: مراحل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية. الخاتمة: وفيها أبرز نتائج البحث، والتوصيات المتعلقة به.
وهذا أوان البدء فيما أردنا.
التمهيد:
وفيه المواضيع التالية:
- تعريف تنزيل الأحكام على الوقائع.
- مشروعية تنزيل الأحكام على الوقائع.
- حكم تنزيل الأحكام على الوقائع.
- ضوابط تنزيل الأحكام على الوقائع.
- الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع.
- درجة الاجتهاد المطلوبة عند تنزيل الأحكام في الوقائع.
- ما يلزم للقاضي والمفتي عند الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع.
- تأهيل القاضي والمفتي بالخبرة والتجربة.
تعريف تنزيل الأحكام على الوقائع:
التنزيل في اللغة: مصدر من الرباعي (نزل)، ونزل الشيء أنزله، والشيء رتبه ووضعه منزله.
والأحكام في اللغة: جمع مفرده (حكم)، وأصله: المنع، يقال: حكمت عليه بكذا إذا منعته من خلافه، فلم يقدر على الخروج من ذلك، ويطلق على القضاء والفصل، فيقال: حكمت بين القوم إذا فصلت بينهم.
وفي الاصطلاح: عرفه الفقهاء بأنه: مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء، أو تخييراً، أو وضعاً.
وسمي الحكم كلياً لأنه يشمل صوراً كثيرة من الوقائع الجزئية التي لا حصر لها، ويسعى القاضي والمفتي في تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع الجزئية التي تعرض عليهما للقضاء أو الفتيا.
والوقائع في اللغة: جمع مفرده (واقعة)، أصلها يرجع إلى الفعل (وقع)، وهو يدل على سقوط شيء، فوقع الشيء يقع وقعاً ووقوعا سقط..
والوقائع: الأحوال والأحداث، مفردها (وقعة) على غير قياس، وقال الكفوي (ت: 109هـ): مفردها (وقعية).
والواقعة: صدمة الحرب مرة بعد مرة، والاسم منها الوقيعة والواقعة..
قال ابن منظور (ت: 711هـ): "الواقعة والوقيعة: الحرب والقتال، وقيل: المعركة، والجمع وقائع"..
وتطلق الواقعة على النازلة من صروف الدهر، والنازلة الشديدة، والقيامة، وجمعها واقعات..
ويستخلص مما سبق أن الوقائع جمع، المراد منه:الأحوال والأحداث، مفرده: وقعة أو وقيعة، مأخوذ من وقعة الحرب، وأن الاسم منه: وقيعة وواقعة، وجمعه: وقائع وواقعات.
والمراد بالواقعة القضائية: الحادثة التي يقع فيها التنازع لدى القاضي تقتضي فصلاً بحكم ملزم، أو صلح عن تراض..
والمراد بالواقعة الفتوية: الحادثة يستفتى فيها تستدعي تحقيق مناط الحكم الكلي عليها من غير إلزام.
والمراد بتنزيل الأحكام على الوقائع هنا: هو تطبيق الحكم الكلي على الواقعة القضائية أو الفتوية بعد اكتمال ما يلزم لذلك..
ومن الألفاظ التي تطلق على تنزيل الأحكام على الوقائع: توصيف الوقائع، تطبيق الأحكام الكلية على الوقائع، تحقيق المناط بتعيين محل الحكم الشرعي الكلي، إيقاع الحكم الكلي على محله([1])
مشروعية تنزيل الأحكام على الوقائع:
هو مشروع في كل نازلة تعرض على القاضي أو المفتي، فعن عمرو بن العاص - رضي الله عنه - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر.
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم القاضي بالاجتهاد إذا أراد الحكم، وأخبر بما له من الأجر([2]).، ومن اجتهاد القاضي تنزيل الحكم على الواقعة بتحلية الواقعة بالأوصاف الشرعية المقررة في الحكم الكلي.
يقول ابن سعدي (ت: 1376هـ): في شرح هذا الحديث: "ودل على أنه لا بد للحاكم من الاجتهاد، وهو نوعان: اجتهاد في إدخال القضية التي وقع فيها التحاكم بالأحكام الشرعية، واجتهاد في تنفيذ ذلك الحق على القريب والصديق وضدهما... "([3])، فإدخال الواقعة في الحكم الشرعي هو تنزيل الحكم على الواقعة، وهو اجتهاد لا بد منه.
إن الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع في القضاء أو الفتوى لا يستغنى عنه بالتقليد، بل هو فريضة في كال نازلة؛ لأن كل واقعة قضائية أو فتوية نازلة مستأنفة لم يسبق لها مثيل، فتحقيق المناط فيها متجدد لا ينضبط بمناط واحد، فلا يمكن التقليد فيها؛ يقول الشاطبي (ت: 790هـ): "لا يمكن أن يستغنى ههنا بالتقليد؛ لأن التقليد إنما يتصور بعد تحقيق مناط الحكم المقلد فيه، والمناط هنا لم يتحقق بعد؛ لأن كل صورة من صور النازلة نازلة مستأنفة في نفسها ولم يتقدم لها نظير، وإن تقدم لها في نفس الأمر فلم يتقدم لنا، فلا بد من النظر فيها بالاجتهاد، وكذلك إن فرضنا أنه تقدم لنا مثلها فلا بد من النظر في كونها مثلها أو لا، وهو نظر اجتهاد أيضاً... ويكفيك من ذلك أن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية، وعبارات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر، ومع ذلك فلكل معين خصوصية ليست في غيره ولو في نفس التعيين([4]).
وقد مثل - رحمه الله - بأمثلة منها: فرض نفقات الزوجات والقرابات من أنه مفتقر إلى النظر في حال المنفق عليه، والمنفق، وحال الوقت، إلى غير ذلك من الأمور التي لا تنضبط بحصر، ولا يمكن استيفاء القول في آحادها، فلا يمكن أن يستغنى بالتقليد فيها([5]).
ويقول الدريني (معاصر) في بيان أهمية التطبيق على الوقائع: "من الواضح أن الاجتهاد في التطبيق أضحى لا يقل خطراً عن الاجتهاد في الاستنباط الفقهي المجرد إن لم نقل: إن الأول أعظم خطراً؛ لأنه يتعلق بالثمرات الواقعية، والآثار العملية في حياة الأمة، وهي الغاية القصوى من التشريع كله "([6]).
ومن هنا نشأت صعوبة أمر القضاء، يقول جعيط (ت: 1970م): "ولدقة تحقيق المناط وتطبيق القواعد على جزئياتها صعب أمر القضاء "([7]).
حكم تنزيل الأحكام على الوقائع:
إن تنزيل الأحكام على الوقائع مما لا يتم الحكم القضائي أو الفتوى إلا به، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالوقائع يتكرر نزولها، ولا يطابق بعضها بعضاً بل تختلف عنها قليلاً أو كثيراً بحكم ما يحف بها عند وقوعها من علل دافعة، أو عوارض مانعة، أو ظرف زماني أو مكاني فلا يمكن التقليد فيها، فوجب الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع في كل قضية تعرض على القاضي أو المفتي([8]).
ثم إن تقرير الحكم الكلي وأوصافه - مفترضاته ومعرفاته - منزل في الأذهان لا على الأعيان، وهو مقرر لأجل تطبيقه على الأعيان، والأعيان والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة بل مسخصة فلا بد من إيقاع الحكم عليها بتحلية الواقعة بالأوصاف المقررة في الحكم الكلي.
ولو فرض عدمه لانعدم الحكم على الأعيان، وكان التكليف محالاً وهو غير ممكن شرعاً وعقلا([9]).
يقول الشاطبي (ت: 790هـ): "ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد([10]) لم تنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن؛ لأنها مطلقات وعمومات، وما يرجع إلى ذلك منزلات([11]) على أفعال مطلقات كذلك، والأفعال لا تقع في الوجود مطلقة، وإنما تقع معينة مشخصة، فلا يكون الحكم واقعاً عليها إلا بعد المعرفة بأن هذا المعين يشمله ذلك المطلق أو ذلك العام.. فلا بد من هذا الاجتهاد في كل زمان؛ إذ لا يمكن حصول التكليف إلا به، فلو فرض التكليف مع إمكان ارتفاع هذا الاجتهاد لكان تكليفاً بالمحال، وهو غير ممكن شرعاً كما أنه غير ممكن عقلاً، وهذا أوضح دليل في المسألة "([12]).
ويقول ابن تيمية (ت:728هـ): "وحكام المسلمين في الأمور المعينة، ولا يحكمون في الأمور الكلية، وإذا حكموا في المعينات فعليهم أن يحكموا بما في كتاب الله، فإن لم يكن فبما في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم يجدوا اجتهد الحاكم برأيه"([13]).
ضوابط تنزيل الأحكام على الوقائع:
عند تنزيل الحكم الكلي على الواقعة من قبل القاضي أو المفتييجب عليه أن يتحقق من الضوابط التالية([14]):
1- أن يكون الحكم الكلي محدداً ومبيناً على أصل شرعي ومفسراً.
2- أن تكون الواقعة محل النظر في القضاء أو الفتوى مؤثرة في الحكم ومفسرة، وإذا كانت في القضاء فلا بد أن يثبت وقوعها.
3- مراعاة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع.
وسوف نتحدث في هذا البحث عن الحكم الكلي وتحديده وتفسيره والواقعة القضائية و تأثيرها وإثباتها وتفسيرها، وعن أصول تنزيل الأحكام على الوقائع بالإضافة إلى وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع التي بوساطتها يجري الحكم على النازلة.
الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع:
الاجتهاد في اللغة: بذل الوسع لإدراك أمر شاق([15]).
ويتناول الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع من جانبين:
الجانب الأول: اجتهاد في تحصيل الأحكام الكلية:
وهو ما يعرفه الأصوليون بأنه: بذلك الجهد من قبل الفقيه لإدراك حكم شرعي من أدلته المقررة شرعا([16]).
وهو مشروع لتحصيل الأحكام الكلية، ويتأكد في النوازل الفقهية.
ويكتفى عنه عند عدم تحقيقه بالتقليد في تحصيل الأحكام الكلية مع التأهيل للنظر في النوازل عند الاقتضاء.
الجانب الثاني: اجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع فتوية أو قضائية:
والمراد به: بذل الجهد من قبل القاضي أو المفتي في تحقيق مناط الحكم على الواقعة محل النظر.
درجة الاجتهاد المطلوبة عند تنزيل الأحكام على الوقائع:
الاجتهاد على نوعين:
الأول: اجتهاد تام، وهو بذل غاية الجهد في التعرف على الشيء فيشعر المجتهد بالعجز عن المزيد.
والثاني: اجتهاد ناقص، وهو النظر المطلق في التعرف على الشيء.
ويمثل لذلك بالبحث عن درهم ضاع في التراب فشخص قال بقدمه هكذا في التراب فقلبه فلم يجد شيئا فتركه وذهب، وآخر جرى له ذلك فأتى بغربال وأخذ في نخل التراب من موضع سقوط الدرهم حتى وجده أو غلب على ظنه أنه لن يجده، فالأول اجتهاد ناقص، والثاني اجتهاد تام.
وتنزيل الأحكام على الوقائع عمل ذهني، لا يتم على أكملوجهه إلا ببذل غاية الجهد بحيث يشعر القاضي أو المفتي أن لا مزيد على ما بذله، ولا يكفي فيه اجتهاد ناقص يحس القاضي أو المفتي من نفسه القدرة على المزيد من الاجتهاد([17]).
فيجب على القاضي أن يكون واقفاً على الأحكام الكلية الفقيهة، مقتدراً على تطبيقها، باذلاً قصارى جهده في التفطن لكلام الخصوم وحججهم، ودفوعهم وبيناتهم، والسعي في التثبت منها، وتوقي خداع الخصوم وشبهاتهم، وذلك يستدعي من القاضي أن يكون واعياً يملك القدرة على الجمع، والمقارنة، والقياس، والتقاط الأوصاف المؤثرة، وتمييز الفروق المقررة، وتحديد الأوصاف المتفق عليها والمختلف فيها بين الخصمين، والمضي في إثباتها واستنباطها وتنزيل الحكم الكلي عليها([18]).
وهكذا على المفتي الاجتهاد في ذلك فيما يخص الفتوى.
ما يلزم للقاضي والمفتي عند الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع:
يلزم له أمران:
الأول: تحصيل الأحكام الكلية وما يلزم لها من حسن التصور.
الثاني: التدريب وصقل الملكات:
ويلزم للتدريب وصقل الملكات أمران:
- التعرف على أصوله النظرية، وهو ما سنتحدث عنه في هذا المقام.
- التدريب واكتساب الخبرة، وسنبينه في العنوان التالي.
تأهيل القاضي والمفتي بالخبرة والتجربة:
الخبرة والتجربة تعني ما يكتسبه المبتدئ في أي مهنة من التمرس عليها مما يكسبه القدرة على معاناتها وضبط إجراءاتها([19]).
فالخبرة والتجربة تصقل مواهب القاضي والمفتي الفطرية وصفاته التي يجب أن يتحلى بها، ويتمكن من الآداب اللازمة لمهنته والأحكام الموضوعية والأصول النظرية والإجرائية، ويرتاض بصفة تنزيل الأحكام على الوقائع على أصلوه الصحيحة([20]).
فيكون عنده بعد التدريب والمران ملكة تهيؤه لفهم أصول المهنة وحسن التعامل معها وتطبيق الأحكام المتعلقة بذلك على الوقائع، فلا يكفي لفن من الفنون التعرف على الأحكام، بل لا بد من الارتياض في مباشرته وتطبيقه؛ حتى يكون لقاصده من ذلك ملكة قارة قادرة على الاهتداء لأصوله وإدراك الأحكام العارضة له، فيهتدي لمعاقده، ويتنبه لفروقه؛ لكثرة نظره فيه، وإتقانه لأصوله ومآخذه، وتردده في ممارسته حتى تكون مباشرته عنده سهلة ميسرة، وذلك من أنفس ما يحصله المتدرب في كل فن، وهو من أنفس صفات متلقي الأحكام لتنزيلها على الوقائع في الفتيا والقضاء والتحقيق الجنائي وما يشابهها([21]).
فالخبرة والتجربة أساس كل فن وسبب نجاح كل مهنة؛ لأن من تردد في شيء أعطي سره، ومما يدل على ذلك ويبين أهميته أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عزم على بعث علي - رضي الله عنه - إلى اليمن قاضياً احتج علي بأنه لا علم له بالقضاء، وهو يعني أنه لا خبرة ولا تجربة له فيه تعينه على القيام به، فعن علي - رضي الله عنه - قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً، فقلت: يا رسول الله، ترسلني وأنا حديث السن ولا علم لي بالقضاء؟ فقال: إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الأول، فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء، قال فما زلت قاضياً - أو ما شككت في قضاء بعد-
فقول علي - رضي الله عنه -: "ولا علم لي بالقضاء " لم يرد به نفي العلم مطلقاً؛ فإنه - رضي الله عنه - كان عالماً بأحكام الشرع وقضاياه، وإنما أراد نفي الخبرة والتجربة بسماع المرافعة بين الخصوم وما يلزم لها([22])، فدل ذلك على مكان الخبرة وأهميتها وشرعيتها([23]).
وقد ساق الإمام البخاري (ت: 256هـ) في صحيحة في باب طرح الإمام المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من العلم - حديث ابن عمر - رضي الله عنه - في النخلة، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، وإنها مثل المسلم، حدثوني ما هي؟ قال: فوقع الناس في شجر البوادي، قال عبد الله: فوقع في نفسي أنها النخلة، ثم قالوا: حدثنا ما هي يا رسول الله؟ قال: هي النخلة.
ولا غرو في ذلك، فتلقي الشيء من صفته العملية والتردد فيه واكتساب الخبرة مما يعين على أدائه وإتقانه.
والتعرف على الأحكام الموضوعية لكل فن لا يغني عن اكتساب الخبرة والتجربة بمباشرته والاشتغال به مدة من الزمن وتلقيه من أربابه الذين حنكتهم السنون وأيدتهم التجربة، فالتجربة أصل في كل فن، ومعنى مفتقر إليه في كل علم([24]).
يقول القرافي (ت: 684هـ) في حاجة القاضي إلى الخبرة وغيرها من الصفات للتفطن في وجوه حجج الخصوم: "فهذا باب آخر عظيم يحتاج إلى فراسة عظيمة ويقظة وافرة وقريحة باهرة ودربة مساعدة وإعانة من الله - تعالى - عاضدة، فهذا كله محتاج إليه بعد تحصيل الفتاوى "([25]).
ويقول ابن عابدين (ت: 1252هـ): "لا بد لكل من المفتي والحاكم من نظر سديد واشتغال مديد ومعرفة بالأحكام الشرعية والشروط المرعية "([26]).
ونقل - أيضا - عن بعض الحنفية قوله: "لو أن الرجل حفظ جميع كتب أصحابنا لا بد أن يتتلمذ للفتوى حتى يهتدي إليها "([27]).
وكان أيوب بن سليمان بن صالح (ت: 301 هـ) يقول: "الفتيا دربة "([28]).
ويقول أبو عبد الله بن عتاب (ت: 462هـ): "الفتيا صنعة "([29]).
ويقول ابن سهل (ت: 486هـ): "لولا حضوري مجلس الشورى مع الحكام ما دريت ما أقول في أول مجلس شاورني فيه الأمير سليمان بن أسود وأنا يومئذ أحفظ المدونة والمستخرجة الحفظ المتقن.
ومن تفقد هذا المعنى من نفسه ممن جعله الله إماماً يلجأ إليه، ويعول الناس في مسائلهم عليه - وجد ذلك حقا، وألفاه ظاهراً وصدقاً، والتجربة أصل في كل فن، ومعنى مفتقر إليه في كل علم "([30]).
ويقول الزرقاني (ت: 1099هـ): "القضاء صناعة دقيقة لا يعرفها كل أحد "([31]).
وهذا كله ظاهر في أهمية اكتساب الخبرة والتجربة للمفتي والقاضي ومن في حكمهما مما يهيؤه للنجاح في هذا العمل المهم.
فالقضاء وما في حكمه - حرفة ومهنة وتقنية وصناعة دقيقة، يحتاج إلى الخبرة ويرتكز على فهم الوقائع والبينات والدقة في استنباط ما خفي من الوقائع بالقرائن والعلامات والأمارات والأدلة وعلى فهم النصوص والأحكام الشرعية والإجراءات النظامية وتفسيرها وتطبيق النصوص والأحكام على الوقائع.
وعلى القاضي - وكذا المفتي - أن يبذل وسعه في الحصول على التجارب والخبرات ممن تمكنوا في هذه المهنة وأتقنوا أصولها وعرفوا دقائقها، قد حنكتهم السن، وأيدتهم التجربة، وأحكمتهم الأمور، فمهروا بالقضايا وإيقاع الإحكام عليها([32]).
ومما يعينه في هذا الكتاب مطالعة كتب النوازل فتوى وقضاءً، واطلاعه على أقضية من سبقه وفتاواهم، والتعرف على طريقة تنزيل الأحكام الكليًة على الوقائع الجزئية([33]).
فعلى القاضي الاطلاع على الأحكام وقرارات من كان قبله ودراستها وتبين صفة بنائها وأسبابها وما انتهت إليه، فلقد كان الفقهاء يعدون من أدب القاضي المتأكد أن يطلع على أحكام من كان قبله، وأن يكون بصيراً بها؛ ليستضيء بها ويبني عليها([34]).
وعليه الحرص بالإطلاع واكتساب كل جديد ومفيدٍ في مجال عمله.
وعلى المسؤولين عن القضاء الاهتمامُ بذلك وبذل الوسع في كل ما من شأنه تدريب القضاة وإكسابهم الخبرة والتجربة في هذه المهنة والجمع في ذلك بين الممارسة الفعليًة وأصولها النظرية من صفة السير في نظر القضيًة وصفة تنزيل الحكم عليها مع ما يحصله القاضي من علوم القضاء وأحكامه ومتابعة كل جديدٍ ومفيدٍ فيه وما يكتسبه من صفات القاضي وآدابه ممن يتدرب على أيديهم.
إن الإفتاء وكذا العمل القضائي يتطلب مهارة تستوعبه حتى لا يُفسِد المفتي أو القاضي أكثر مما يصلح؛ يقول الشافعي (ت: 204هـ) في المفتي: "المستفتي عليل، والمفتي طبيب، فإن لم يكن ماهراً بالطب، وإلا قتله([35])"، وهكذا القاضي.
المبحث الأول: الحكم الكلي وفيه أربعة مطالب:
المطلب الأول: أقسام الحكم الكلي وتحليله.
سبق تعريف الحكم الكلي وأنه في الاصطلاح: مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً، أو تخيبراً أو وضعا([36]).
أقسام الحكم الكلي:
إن تعريف الحكم الكلي السابق ينبئك عن أقسام الحكم وأنه على قسمين:
الأول: الحكم التكليفي.
الثاني: الحكم الوضعي.
وبيانهما فيما يلي:
القسم الأول: الحكم التكليفي:
وهو مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاءً، أو تخييراَ([37])، أو صحة، بطلانا([38]).
القسم الثاني: الحكم الوضعي (معرفات الحكم):
وهو مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين وضعاً بكون الشيء سبباً، أو شرطاً، أو مانعاً لشيء آخر([39]).
ومعنى كونه وضعياً: أن الشرع وضع (أي: شرع) أموراً هي الأسباب، والشروط، والموانع، تعرف عند وجودها بفعلها من المكلف أحكام الشرع من نفي أو إثبات؛ فالأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط، وتنتفي بانتفاء الأسباب والشروط أو وجود الموانع([40]).
فالشرع هو الذي وضع (شرع) الأحكام عند وجود أسبابها وشروطها وانتفاء موانعها من المكلف؛ ذلك أن التكليف بالشريعة دائم إلى قيام الساعة، وخطاب الشارع غير مستمر الورود؛ إذ إنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم انقطع الوحيان، وبقيت دلالتهما مستمرة إلى قيام الساعة، ولذلك نصب الشارع أشياء تكون أعلاماً على حكمه ومُعرفات له يعرف بها حكم الشرع عند نزولها وحدوثها من العباد، ألا وهي الأسباب، والشروط، والموانع، فالشرع هو الذي حكم بكونها أوصافاً مؤثرة، وهو الذي حكم بتأثيرها، فأنتجت حكماً تكليفياً، فكان ذلك كالقاعدة الكلية في الشريعة تحصيلاً لدوام حكمها مدة بقاء المكلفين في دار التكليف([41])، وهذا فيه رد على الذين يحكمون بتأثير الحوادث من الأسباب والشروط والموانع بعقولهم من غير رد إلى الشرع.
تحليل الحكم الكلي إلى شطرين:
إذا كان الحكم التكليفي هو الأصل، وهو المرادةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةةة ةةة بالتكليف، وأن الحكم الوضعي معرف له؛ لأنه الأحكام الوضعيَة أوصاف وأعلام ومُعرفَات للحكم التكليفي، ولا قيام له إلا بهذه الأعلام والُمَعرفَات - فإن الحكم الكلي في حقيقته يتحلل إلى شطرين هما: الحكم الوضعي (مُعرفَات الحُكم)، والحكم التكليفي([42]).
وشطرا الحكم الكلي: الأثر، والمؤثر.
فالمؤثر: هو مُعرفَات الحُكم من السبب والشرط والمانع، وهي التي يطلق عليها (الحكم الوضعي).
والأثر: هو الحكم التكليفي من الوجوب والحرمة والإباحة... إلخ، فكأنه قيل: إذا حدث كذا وكذا سوف يحكم بكذا وكذا([43])؛ وكذا يقول القرافي (ت:684هـ): "إن معنى خطاب الوضع - أي معرفات الحكم - قول صاحب الشرع: اعلموا أنه متى وجد كذا، في وجود المانع أو عدم الشرط "([44]).
وهذا الأمر (تحليل الحكم الكلي إلى شطرين) مما ينبغي العناية به واستحضاره عند تنزيل الأحكام على الوقائع بالمطابقة بين الحكم الكلي والواقعة قضائًية كانت أم فتوية.
المطلب الثاني: صفات الحكم الكلي
إن الحكم الكلي يتكون من شطرين هما: مُعرفَات الحُكم (الحكم الوضعي)، والحكم (وهو الذي يطلق عليه الحكم التكليفي)، وهو الأصل في الإطلاق، المُعرفَات تابعة له؛ لأنه لا يتم بدونها، وشطرا الحكم في حقيقتهما نظم واحد يطلق عليه: الحكم الكلي وهو أمرُ أو حظرٌ أو إباحةٌ على أوصاف عامة منزلة في الذهن، والأمر والحظر والإباحة صفات أحكام لا صفات أعيان، ولذا فإن للحكم الكلي صفتين هما: أنه عام، ومجرد([45])، وقد أشار إليهما ابن خلدون (ت: 808هـ) وهو يحدد وظيفة العلماء في التقعيد والتأصيل، فهو يقول: "إنهم معتادون النظر الفكري، والغوص على المعاني، وانتزاعها من المحسوسات، وتجريدها في الذهن، أموراً كليًة عامة؛ ليحكم عليها بأمر العموم لا بخصوص مادة، ولا شخص، ولا جيل، ولا أمة، ولا صنف من الناس، ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات، و - أيضاً - يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي، فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن، ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر... "([46]).
كما أشار إلى صفتي الحكم من العموم والتجريد الشاطبيُّ (ت: 790هـ) بقوله: "لأنها [يعني: الأحكام الكلية] مطلقات وعمومات، وما يرجع إلى ذلك"([47]).
وهذا بيان لصفتي الحكم الكلي من العموم والتجريد:
أ- العموم:
والمراد به: عموم الحكم الكلي لكل الأشخاص والأزمان والوقائع التي تندرج تحته([48]).
فهو عام للمكلفين، فلا يخص شخصاً أو واقعة بعينها، ولا يشترط فيه سوى التهيئة الظاهرة، فهو محدد بالأوصاف والشروط المقررة، لا بأشخاص أو أعيان بذواتهم، وهذا يجعل الحكم الكلي صالحاً للتطبيق على عموم الأشخاص والأعيان الذين تحقق فيهم الأوصاف والشروط المذكورة فيه، وإنما كان الحكم الكلي عاماً حتى يشمل صوراً كثيرة غير متناهية مما يدخل تحته([49]).
يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): "إن الأحكام الجزئية من حل هذا المال لزيد وحرمته على عمرو لم يشرعها الشارع شرعاً جزئياً، وإنما شرعها شرعاً كلياً بمثل قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ، فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ﴾، وهذا الحكم الكلي ثابت، سواء وجد البيع المعين أو لم يوجد، فإذا وجد بيع معين أثبت ملكاً معينا"([50]).
ويقول الشاطبي (ت: 790هـ): "إن الشريعة لم تنص على حكم كل جزئية على حدتها، وإنما أتت بأمور كلية وعبارات مطلقة تتناول أعداداً لا تنحصر"([51]).
فالقاضي والمفتي عند تنزيل الحكم الكلي على شخص أو واقعة معينة، كأنه يخصه بهذا الحكم من عموم الصور والوقائع التي تندرج تحته([52]).
ب- التجريد:
المراد به: افتراض الحكم الكلي عند تقريره كائناً في الأذهان على الأوصاف المجردة عن الأشخاص المعينين والأعيان المحددة([53]).
فالتجريد إذن يعني افتراض الحكم الكلي عند تقريره منزلاً في الأذهان مجرداً عن الأشخاص والأعيان بذواتهم، وإنما يربط الحكم بالأشخاص والوقائع والنوازل بصفاتها المحددة، لا بذواتها وأشخاصها، بل للمعاني القائمة بها مهما اختلفت زماناً أو مكاناً، وإنما يجري تشخيص الأحكام الكلية على الأعيان والصور والأشخاص والوقائع عند تطبيقها وتنزيلها على الوقائع المعينة، والقاضي أو المفتي عند هذا التنزيل يكون قد شخص ووصف هذه الواقعة أو هذه الصورة أو هذا الشخص المعين بهذا الحكم الكلي العام، فصار منزلاً على الأعيان بدلاً من افتراضه في الأذهان([54]).
المطلب الثالث: تحديد الحكم الكلي وبناؤه على الأصول.
العلم بالحق مقدمة للحكم به، والقاضي لا يستطيع أن يحكم فيما يقع إلا بعد العلم بما يجب، فعلى القاضي إذا أراد تنزيل الحكم على الواقعة تحديد الحكم الكلي الفقهي الملاقي لها، وذلك بتمييز الحكم الكلي من عدة أحكام مشابهة له أو متداخلة معه حال اتباع عالم سبق أن قرر حكم المسألة بدليلها، أو حال التقليد، أو باستنباطه بالاجتهاد بناء على أصوله الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع وغيرها من أدلة مشروعية الأحكام، جاء في الاختيارات:
" ويجب أن ينصب - يعني القاضي - على الحكم دليلا، وأدلة الأحكام من الكتاب والسنة والإجماع، وما تكلم الصحابة والعلماء به إلى اليوم "([55]).
فإذا حدد القاضي الحكم الكلي المبني على أصوله تحديداً سليماً، فقد حقق أحد الأسس التي يبنى عليها الحكم القضائي الصحيح.
وعلى القاضي عند تحديد الحكم الكلي الملاقي للواقعة لتنزيله عليها الرجوع إلى نصه، والتحقق من الشروط والأوصاف المقتضية له من مظانها، ولا يكتفي القاضي بحفظه للنص؛ لأنه ربما فاته قيد أو وصف مؤثر.
والأصل في ترتيب الآراء الفقهية للعمل بها أن تتم حسب التالي:
1 - ما وافق المنصوص في الكتاب والسنة والإجماع المحكم.
2 - وفي مسائل الخلاف على الترتيب التالي:
أ - المعمول به في المحاكم.
ب - المشهور من المذهب.
ج - ويجوز الأخذ بالمرجوح إذا كان يحقق مصلحة أو حاجة عهد في الشرع الاعتداد بها وبشروط مقررة شرعاً([56]).
وعلى القاضي الإفادة في النوازل من قرارات المجامع الفقهية المعتد بها، وإلا اجتهد في النازلة وقرر حكمها حسبما يظهر له شرعاً([57]) وهكذا المفتي في جميع ما سلف.
المطلب الرابع: تفسير الحكم الكلي.
التفسير في اللغة: الكشف، والبيان، والإيضاح([58]).
والمراد بتفسير الحكم الكلي:
تفسير نصوص الحكم الكلي ببيان معناها ومطلقها ومقيدها ونحو ذلك، سواء كان نصاً من كتاب أو سنة، أم من كلام أهل العلم([59]).
فالحكم الكلي يتخذ صياغة مشتملة على الحكم التكليفي ومعرفاته، فإذا أراد القاضي والمفتى تنزيل الحكم على الواقعة فلا يمكنه ذلك إلا بعد فهم الحكم الكلي من هذه الصيغة، سواء كانت نصية من كتاب أو سنة، أم فقهية بأن يكون الحكم في صيغة فقهية قد قررها الفقيه واستنبطها من مصادر الاستدلال في الشرع، وسواء كان قاعدة أم فرعاً([60]).
أهمية تفسير نصوص الأحكام الكلية عند تنزيل الحكم على الواقعة:
لا يكفي في تنزيل الحكم على الواقعة والفصل فيها وجود الحكم وتأثيره، بل لا بد من فهمه وتفسيره([61])؛ إذ إن القاضي والمفتي لا يتمكن من القضاء والفتيا إلا بعد العلم بالواقعة وحكمها الكلي، فهو يعلم بما يقع ثم يحكم بما يجب، ولا يتمكن من تطبيق أحدهما على الآخر إلا بعد تفسيرهما وفهمهما([62])، يقول ابن القيم (ت: 751هـ): (لا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.
والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في كتابه أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر)([63]).
ويقول الشاطبي (ت: 790هـ): "لا بد من نظره - يعنى: المفتي - فيه - أي: فيما يبلغه عن ربه - من جهة فهم المعاني من الألفاظ الشرعية... "([64]).
فتفسير الحكم الكلي أحد العناصر الرئيسة في تنزيله على الواقعة، يقول ابن القيم (ت: 751هـ) - مبيناً أهمية تفسير الحكم الكلي -: "ومعلوم أن الله - سبحانه - حد لعباده حدود الحلال والحرام بكلامه، وذم من لم يعلم حدود ما أنزل الله على رسوله، والذي أنزله هو كلامه، فحدود ما أنزل الله هو الوقوف عند الاسم الذي علق عليه الحل أو الحرمة، فإنه هو المنزل على رسوله وحده بما وضع له لغة أو شرعاً بحيث لا يدخل فيه غير موضوعه، ولا يخرج منه شيء من موضوعه "([65]).
فالقاضي والمفتي إذا توصلا إلى تفسير الحكم الكلي تفسيرا صحيحا استطاعا تنزيله على الواقعة - بعد تفسيرها وتقرير ثبوتها - تنزيلا مطابقا لذلك الحكم الكلي، وإن أخطأ في ذلك فإنه يخطئ في تنزيل الحكم على الواقعة، وسوف يكون تقريره لحكمه مجانباً للصواب غير ملاق للحكم الكلي([66]).
يقول ابن القيم - مبينا عاقبة الغلط في فهم حدود كلام الله ورسوله -: "فإنه يتضمن محذورين:
أحدهما: أن يخرج من كلامه ما قصد دخوله فيه.
والثاني: أن يشرع لذلك النوع الذي أخرج حكما غير حكمه، فيكون تغييرا لألفاظ الشارع ومعانيه، فإنه إذا سمى ذلك النوع بغير الاسم الذي سماه به الشارع، أزال عنه حكم ذلك المسمى، وأعطاه حكماً آخر"([67]).
المبحث الثاني: الواقعة القضائية، وفيه خمسة مطالب:
المطلب الأول: أهمية الواقعة القضائية وأقسامها.
سبق بيان المراد بالواقعة القضائية، وأنها الحادثة التي يقع فيها التنازع لدى القاضي تقتضي فصلا بحكم ملزم، أو صلح عن تراض([68]).
والواقعة القضائية أخص من الواقعة الفتوية؛ لأن القاضي ينظر فيما ينظر فيه المفتي من الأمور الجزئية، وإدراك ما اشتملت عليه الواقعة من الأوصاف الكائنة فيها، فيلغي طرديها ويعمل مؤثرها، ويزيد القاضي على ذلك بأنه ينظر في ثبوت أسباب الواقعة وما يعارضها، والإلزام بها، ويظهر للقاضي أمور لا تظهر للمفتي([69]).
يقول السبكي (ت: 756هـ) في الفرق بين الفقيه والمفتي والقاضي -:"... فنظره - أي: القاضي - أوسع من نظر المفتي، ونظر المفتي أوسع من نظر الفقيه، وإن كان نظر الفقيه أشرف وأعم نفعاً.
إذا علمت هذا فالفقه عمومه شريف نافع نفعاً كلياً، وهو قوام الدين والدنيا، والفتوى خصوص فيها ذلك العموم وتنزيل الكلي على الجزئي من غير إلزام، والحكم خصوص ذلك الخصوص فيها وزيادتان؛ إحداهما: النظر في الحجج، والأخرى: الإلزام"([70]).
أهمية الواقعة القضائية:
سبق أن بينا الحكم الشرعي الكلي، وأنه مقتضى خطاب الشرع المتعلق بأفعال المكلفين اقتضاء أو تخييراً، أو صحة وبطلاناً، وبينا أن له سمتين هما: العموم والتجريد([71])، لكن الحكم الكلي الفقهي بهذه الصفة يبقي نظرياً ساكناً منزلاً في الأذهان، حتى إذا لامسته الواقعة القضائية، حركته من سكونه وشخصته، فصار منزلا على الأعيان والأشخاص، فالواقعة القضائية هي المحل الذي يعمل فيه الحكم الكلي، ومن هنا تأتي أهمية الواقعة القضائية، فهي التي تحرك الحكم الكلي الفقهي لتنزيله عليها([72]).
يقول ابن القيم (ت: 751هـ): "الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها: معرفة الأدلة، والأسباب، والبينات، فالأدلة تعرفه الحكم الشرعي الكلي، والأسباب تعرفه ثبوته في هذا المحل المعين أو انتفاءه عنه، والبينات تعرفه طريق الحكم عند التنازع، ومتي أخطأ في واحد من هذه الثلاثة أخطأ في الحكم، وجميع خطأ الحكام مداره على الخطأ فيها أو بعضها.
مثال ذلك: إذا تنازع عنده اثنان في رد سلعة مشتراة بعيب، فحكمه موقوف على العلم بالدليل الشرعي الذي يسلط المشتري على الرد([73])، وهو إجماع الأمة المستند إلى حديث المصراة([74]) وغيره، وعلى العلم بالسبب المثبت بحكم الشارع في هذا البيع المعين([75])، وهو كون هذا الوصف عيباً يسلط الرد أم ليس بعيب، وهذا لا يتوقف العلم به على الشرع، بل على الحس، أو العادة، أو الخبر، ونحو ذلك، وعلى البينة التي هي طريق الحكم بين المتنازعين..." ([76]).
وبهذا يتبين بأن الواقعة القضائية هي التي تحرك الحكم الكلي من عمومه وتجريده؛ لينزل على الوقائع فيشخصها، وتدب فيه الحركة بعد السكون؛ ذلك أن القاضي إنما يحكم ويلزم في الوقائع المعينة([77])، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): "وحكام المسلمين يحكمون في الأمور المعينة، ولا يحكمون في الأمور الكلية"([78]).
فالأحكام الكلية إنما شرعت لتنزل على الوقائع المعينة، لا لتبقى علما مطلقا لا حقيقة له ولا واقع، يقول الشاطبي (ت: 790هـ):"... الشرائع إنما جاءت لتحكم على الفاعلين من جهة ما هم فاعلون"([79])، ويقول في موضع آخر: "ولو فرض ارتفاع هذا الاجتهاد([80])، لم تتنزل الأحكام الشرعية على أفعال المكلفين إلا في الذهن"([81]).
وكذا الفتوى تحرك الحكم الكلي من عمومه وتجريده لينزل على الوقائع، فيشخصها وتدب فيه الحركة بعد السكون، فهي محل للحكم.
ولا بد لكل حكم قضائي من مقدمتين؛ إحداهما: الحكم الكلي، والأخرى: الواقعة القضائية، فالثانية محل الحكم، والأولى حاكمة عليه([82])، وهكذا الفتوى.
أقسام الواقعة القضائية من جهة التأثير وعدمه:
تنقسم الواقعة من هذه الجهة ثلاثة أقسام، هي([83]):
1- الواقعة المختلطة:
والمراد بها: ما يقدمه الخصم مدعيا أو مدعى عليه للقاضي عند المخاصمة من دعوى وإجابة ودفوع مشتملة على وقائع طردية ومؤثرة([84]).
فإذا قدمت هذه الوقائع كان على القاضي تنقيحها بإبقاء مؤثرها، وحذف طرديها.
2- الواقعة المؤثرة:
والمراد بها: ما شهد له الشرع بالاعتبار والتأثير في الحكمالقضائي من أقوال الخصوم، ودفوعهم الواردة في الدعوى والمتعلقة بها([85]).
فإن الدعوى يرد فيها وقائع كثيرة سواء في الدعوى والإجابة، أم الدفوع والمباحثات بين الخصمين، أو من أحدهما، أو كليهما مع القاضي، فما كان له تأثير في الحكم القضائي فهو المراد بالواقعة المؤثرة.
ومن الوقائع المؤثرة ما هو مؤكد لا مؤسس، كاشتراط تسليم المبيع، والرد بالعيب، وسائر شروط مقتضى العقد([86]).
ومنها ما تأثيره مباشر، وذلك كأن يدعي رجل أنه اشترى من زيد داره، ويطلب تسليم الدار له، وينكر زيد هذا العقد، فهنا الواقعة المؤثرة هي شراء المدعي الدار، فينصب الإثبات عليها عند الإنكار، ويمكن أن نطلق على هذه الواقعة المؤثرة: الواقعة الأصلية.
كما أن من الوقائع المؤثرة ما يكون تأثيره غير مباشر، وهي الواقعة التي يكون ثبوتها موصلا إلى ثبوت الواقعة مباشرة، وذلك هو شأن القرائن، كحيازة المشتري العين - أي وضع يده عليها - مدة دالة على حيازة الملاك أملاكهم، ويمكن أن نطلق على هذه الواقعة المؤثرة: الواقعة التبعية.
3 - الواقعة الطردية:
والمراد بها: ما دل الشرع بأن لا مدخل ولا تأثير لها في الحكم القضائي من أقوال الخصم ودفوعه الواردة في الدعوى والإجابة، فهي الوقائع والأوصاف التي لا ثمرة من وجودها أو فقدها([87]).
فالخصم يذكر أموراً وحوادث في الدعوى والإجابة، ونجد أن بعضا منها لا مدخل ولا تأثير له في الحكم أصالة أو تبعية، فهذا هو المراد بالواقعة الطردية.
والوقائع الطردية منها ما هو طردي مطلقا لا تأثير له في الحكم القضائي، كالأمور التي لا تدخلها الأحكام من العبادات صحة وفساداً، ومسائل العلم الكلية، ومسائل العقيدة؛ كالرؤية، والفضائل، والمندوبات، والمكروهات، فهذه وقائع طردية مطلقاً لا يدخلها الحكم القضائي ألبتة([88]).
ومثل ما يذكره الخصم في دعواه أو إجابته ودفوعه من كون الخصم أثناء التعاقد كان يشرب القهوة، أو يلبس ثوباً أبيض، ونحو ذلك من الهيئات والأحوال التي الأصل عدم تأثيرها في الحكم.
ومن الوقائع الطردية ما هو طردي في موضع النزاع فقط، ويكون مؤثراً في نزاع آخر، وذلك كأن يدعي شخص جهالة العمل المتعاقد عليه في الجعالة، كما لو قال شخص: من رد ضالتي فله كذا، فإن هذا الادعاء في الجعالة طردي؛ لأنها تصح ولو مع جهالة العمل، لكن لو ادعى ذلك في الإجارة كان وصفا مؤثرا؛ لأن الإجارة يشترط لها معرفة المنفعة إما بوصف مشاهدة أو عرف([89]).
تنبيه: ما قيل في أقسام الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على الواقعة الفتوية.
المطلب الثاني: تعريف الواقعة القضائية المؤثرة، وشروطها.
تعريف الواقعة القضائية المؤثرة:
هي الواقعة التي شهد لها الشرع بالتأثير في الحكم القضائي([90]).
وإذا استطعنا معرفة الواقعة المؤثرة بتحقق شروطها، سهل علينا معرفة الطردية واستبعادها.
شروط الواقعة القضائية المؤثرة:
لا يتحقق تأثير الواقعة في الحكم القضائي إلا باستجماعها الشروط التالية([91]):
1 - أن تكون الواقعة حقاً مشروعاً للمدعي فيه مصلحة من جلب نفع أو دفع ضرّ:
فلا بد لتأثير الواقعة في الحكم القضائي وصلوحها في تنزيل الأحكام من أن تكون معتداً بها شرعاً، فالحقوق والأملاك وجميع الأسباب لا تؤثر بنفسها في الوقائع إلا إذا جعلها الشرع كذلك، فالشريعة حاكمة على كل شيء إفراداً وتركيباً([92]).
والواقعة القضائية إذا كانت في شيء غير محترم شرعا، فإنها تفقد التأثير الإيجابي في الحكم القضائي عند الجمهور، وذلك كالمطالبة بمهر البغي، وحلوان الكاهن، والفوائد الربوية، وخالف ابن تيمية (ت: 728هـ) في ذلك، فهو يرى أن ثمن الخمر لا يحل للخمار، فلا يقضى لبائع الخمر بثمنها قبل القبض، ولو أعطى مشتريها الثمن لبائعها لم يحكم برده للبائع، بل يؤخذ ويصرف في مصالح المسلمين([93])، وهو قول له قوة، وعليه يجوز الدعوى بالمال غير المحترم في مثل هذه الحالة، ويحكم به لبيت المال.
وتجوز المطالبة بكل حق مباح - عين أو دين - للمدعي فيه نفع أو دفع ضرر ولو كان الضرر متوقعا لا واقعا إذا عرف وقوعه عادة([94]).
ولا تكون الواقعة مؤثرة إذا كانت الدعوى حيلة لا حقيقة فيها للتنازع([95])، أو كانت الدعوى غير مفيدة للمدعي، بل كانت لعباً وتعنتاً([96])، وأما دعاوى الحسبة فلا يشترط لتأثيرها مطالب له مصلحة خاصة([97]).
2 - لزوم الواقعة عند ثبوتها:
فالواقعة القضائية المؤثرة هي التي تلزم على فرض ثبوتها كالبيع والإجارة ونحوها من العقود التي تلزم عند صدورها.
أما الوقائع غير اللازمة كالهبة قبل القبض، فلا تأثير إيجابي لها في الحكم القضائي؛ لأنه لا يصح الإلزام بها قبل قبضها كما هو مذهب الجمهور، خلافاً للمالكية([98]).
3 - أن تكون الواقعة متعلقة بالدعوى:
لا يكفي في الواقعة القضائية مشروعيتها ولا لزومها، بل لا بد من تعلقها بالدعوى والمطالبة المرفوعة حالاً أمام القاضي، وإلا كانت هدراً غير مؤثرة([99])، وهذا يشمل الواقعة الأصلية، وهي الواقعة المتنازع فيها، والواقعة التبعية وهي التي يؤدي ثبوتها إلى ثبوت الواقعة الأصلية المتنازع فيها، كالقرائن المتعلقة بالإثبات، والتي يستنبط منها ثبوت الواقعة المؤثرة أو نفيها، فكلها تعد متعلقة بالدعوى، ويخرج هذا الشرط الواقعة الطردية في موقع النزاع، وإن كانت مؤثرة في نزاع آخر غير منظور لدى القاضي حالاً، كجهالة المتعاقد عليه في الجعالة، فإنه عند النزاع في الجعالة يكون طردياً، وعند النزاع في الإجارة يكون مؤثراً.
4 - أن تكون الواقعة محررة:
وذلك بأن تكون الواقعة القضائية محددة وموصوفة، ومعرفاً بها تعريفاً ينافي الجهالة، فالواقعة إذا كانت مجهولة فلا تكون مؤثرة؛ لأنها غير مفيدة في الدعوى؛ لجهالتها وعدم إمكان القضاء فيها ولا سماع البينة عليها([100]).
فلا بد من تحديد العقار وبيان عدد النقود وجنسها، ونحو ذلك مما يلزم في تحديد المتنازع عليه في وصفه الخارجي، واستثنى العلماء بعض الصور تصح الدعوى بها مجهولة([101])، وتكون مؤثرة مع جهالتها، وذلك كالوصية وعوض الخلع، ونحوهما مما يصح مجهولاً، وينظر في بيانه وتفسيره.
وهكذا لا بد من بيان المدعى به في وصفه الشرعي، وذلك بأن يذكر شروط عقد النكاح مثلاً إذا كانت الواقعة في دعوى نكاح ابتداءً، لا استدامته، ولا يلزم ذكر شروط عقد بيع وإجارة ؛حملاً لهما على الصحة([102]).
ومتي جهلت الواقعة المؤثرة، ويُئس من الوقوف عليها أو شق اعتبارها، كانت كالمعدومة، لا تأثير لها ولو كان الأصل بقاءها([103])، فلو ادعى المدعي بأنه اشترى جزءاً مشاعاً من عقار حدده ووصفه، ولكنه لم يذكر مقدار هذا الجزء - ثلثاً أو ربعاً أو أمتاراً معلومة مشاعة - فإن هذه الواقعة لا تعتبر حتى يدعي المدعي بجزء معين.
5 - أن تكون الواقعة ممكنة الوقوع:
فلا تكون الواقعة القضائية مؤثرة، إلا إذا كانت ممكنة الوقوع، منفكة عما يكذبها شرعاً وعقلاً وحساً وعرفاً، وغير متناقضة مع أمر سبق صدوره من الخصم ومن في حكمه، أما إذا لم تنفك عما يكذبها من أحد هذه الوجوه، فلا تكون مؤثرة.
فمثال ما كذب شرعاً: الدعوى بأكثر من النصيب الشرعي في المسألة الإرثية، كأن تدعي الأخت في مسألة انحصر الوارث فيها في أخت وأخ شقيقين بأن لها النصف، وليس لها إلا الثلث؛ لأن للذكر مثل حظ الأنثيين في مثل هذه الصورة.
ومثال ما كذب عقلاً: من يدعي بأن زيدا قتل أباه منذ عشرين عاماً، وسن المدعى عليه دونها.
ومثال ما كذب حساً: أن يدعي شخص بأن أباه قد قتل، وهو حي مشاهد.
ومثال ما كذب عرفاً: أن يدعي بأنه قد استأجر السلطان لحمل حزمة بقل ونحوه.
ومثال ما كانت فيه الدعوى متناقضة مع أمر سبق صدوره من المدعي: أن يدعي على شخص بأنه قتل أباه منفرداً، ثم يدعي على آخر بالمشاركة، فلا تسمع الدعوى الثانية، إلا أن يدعي غلطاً ممكنا في الأولى، فتسمع الثانية([104]).
المطلب الثالث: تنقيح الواقعة القضائية المراد به ووسيلته ومراحله المراد به:
هو تمحيص الوقائع القضائية المختلطة، وتخليصها من الأوصاف والوقائع الطردية التي لا مدخل لها ولا تأثير في تنزيل الحكم على الواقعة والحكم فيها، وتعيين الوقائع والأوصاف المؤثرة في تنزيل الحكم على الواقعة القضائية والحكم فيها([105]).
فهو الاجتهاد في حذف بعض الوقائع والأوصاف من الوقائع القضائية المدعاة، والتي لا ثمرة في وجودها أو فقدها، وتعيين بعضها لتنزيل الحكم الكلي عليها والحكم القضائي.
وذلك بأن تكون بعض الأوصاف والوقائع لا دخل لها في تنزيل الحكم على الواقعة ولا الحكم فيها، فتحذف حتى تتعين الأوصاف والوقائع المؤثرة في تنزيل الحكم على الواقعة والحكم القضائي، فينظر في إثباتها وتقريرها وتنزيل الحكم عليها.
ومما تجدر الإشارة إليه أن بعض الأوصاف والوقائع المؤثرة قد يسكت عنها الخصم، فيلزم القاضي الاستفسار عنها حتى تتم صورة الواقعة المؤثرة([106]).
ومن جمع في دعواه بين ما يتعلق به الحكم فيها وبين ما لا يتعلق به ذلك، فلا يعتد بما لا يتعلق به الحكم، بل الاعتداد بما له تعلق بالحكم، فعلى القاضي الاجتهاد في تنقيح الواقعة حتى تكون بعد تنقيحها مهذبة مرتبة، كأنه لم يذكر فيها سوى ما يتعلق به الحكم القضائي([107]).
وما قيل في تنقيح الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على تنقيح الواقعة الفتوية.
وسيلته:
إن تنقيح الوقائع القضائية لإعمال مؤثرها وحذف وإلغاء طرديها بحيث تكون الواقعة المؤثرة بعد تنقيحها، وكأنه لم يرد فيها سوى الأوصاف والوقائع المؤثرة منقحة مرتبة مهذبة - له وسيلته وهي: التحليل، والمقابلة بين الحكم الكلي الفقهي وبين الوقائع القضائية المختلطة، فيحلل الحكم الكلي الفقهي إلى عناصره الأساس (المعرفات، والحكم)، وتجري مقابلتها بالوقائع القضائية المختلطة.
فيقوم القاضي بتحديد الحكم الكلي الفقهي الملاقي للواقعة([108])، سواء كان نصا من الكتاب والسنة، أم كان من كلام أهل العلم، أم اجتهد القاضي في تقريره وتأصيله على نحو ما بينا سابقاً في تقرير الحكم الكلي.
ومن المهم الرجوع إلى النص المقرر للحكم الكلي، والتحقق من الشروط المقتضية له من مظانه، وعدم الاعتماد على حفظ القاضي له ؛حتى لا يفوته شيء منه.
وبعد ذلك يقوم القاضي بتحليل معرفات الحكم الكلي الفقهي الموجودة في النص الشرعي، والتي تمثل فروض الحكم الكلي وعناصره التنظيرية الكلية؛ من السبب والشرط وعدم المانع، ومن ثم يعرض القاضي الواقعة القضائية على هذه الفروض والأوصاف والمعرفات الكلية وصفاً وصفاً، فما قابل منها المؤثر فهو مؤثر نعتد به، وما خلا من ذلك فهو الطردي الذي يحذف ويلغى([109])؛ وما ذلك إلا لأن الحكم في الواقعة القضائية يتم على مثال الحكم الكلي الفقهي، ومنه يتعرف على الوقائع مؤثرها وطرديها، فعلى القاضي أن يحدد الحكم الكلي، ومن ثم إجراء المقابلة بينه وبين الواقعة المختلطة، فما قابل المؤثر فهو المعتد به، وما عداه فهو الطردي الذي يلغى ويهدر، مع لحظ ما في الوقائع من شروط وتقسيم يقتضيها الحكم الكلي الفقهي([110]).
وهذه الوسيلة - أعني التحليل والمقابلة - كان فقهاؤنا يهدون إليها من رام إجابة لسائل في فتوى ونحوها، يقول الإمام الكرخي (ت: 340هـ): "إن السائل إذا سأل سؤالاً ينبغي للمسئول ألا يجيب على الإطلاق والإرسال، لكن ينظر فيه ويتفكر؛ إنه ينقسم إلى قسم واحد، أو إلى قسمين، أو أقسام، ثم يقابل في كل قسم حرفاً فحرفاً، ثم يعدل جوابه على ما يخرج إليه السؤال، وهذا الأصل تكثر منفعته؛ لأنه إذا أطلق الكلام فربما كان سريع الانتقاض؛ لأن اللفظ قلما يجري على عمومه"([111]).
وما قيل هنا عن الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على الواقعة الفتوية.
مراحله:
إن تنقيح الوقائع يتم في مرحلتين، هما: التنقيح الابتدائي، والتنقيح النهائي، ونبين ذلك فيما يلي:
أولاً: التنقيح الابتدائي:
المراد به: تخليص الوقائع القضائية من الوقائع الطردية بإلغائها وإبقاء الوقائع المؤثرة في بداية الدعوى بعد استجواب الطرفين([112]).
والغرض منه: تهيئة الواقعة للنظر في إثباتها بطرق الحكم.
وزمنه: بعد سماع الدعوى والإجابة.
إن الخصمين عند رفع دعواهما للقاضي تكون وقائعهما مختلطة غالباً، مشتملة على المؤثر والطردي من الوقائع، ولا يمكن القاضي السير في القضية إلا بعد تنقيح الوقائع المدعاة بإلغاء طرديها وإبقاء مؤثرها، فعلى القاضي القيام بهذا التنقيح بعد استجواب الطرفين، وتمييز ما اتفقا عليه وما اختلفا فيه، تهيئة للواقعة المؤثرة المختلف فيها للإثبات([113]).
يقول علي حيدر (ت: 1354هـ): "والقاضي يستمع أولاً دعوى المدعي، ويوفق هذه الدعوى على إحدى المسائل الشرعية، فيستوضح القيود والشروط اللازمة المقتضية"([114]).
وفي التنقيح الابتدائي ربما نُزّلت الدعوى على حكم كلي، ونزلت الإجابة على حكم آخر.
ومما تجدر الإشارة إليه أن التنقيح الابتدائي قد يتغير عند التنقيح النهائي، فتضاف أوصاف مؤثرة، وتلغى أوصاف أخرى ظهرت طرديتها عند تنقيح الوقائع وتهيئتها للحكم.
فتنزيل الحكم على الواقعة ابتداء أشبه بفتوى تصدر من القاضي في هذا المحل، تهيئ الواقعة للإثبات، وللقاضي العدول عنها أو تعديلها عند تنزيل الحكم على الواقعة انتهاء([115]).
ثانياً: التنقيح النهائي:
المراد به: تخليص الوقائع والبينات القضائية بإبقاء مؤثرها وإلغاء طرديها بعد ختام المرافعة.
والغرض منه: تهيئة الواقعة لتنزيل الحكم الكلي عليها والفصل فيها([116]).
وزمنه: بعد ختام المرافعة بانتهاء استجواب الطرفين، وسماع دفوعهما وبيناتهما، والإعذار([117]) إليهما، أو تعجيزهما([118]).
فالقاضي بعد فراغه من سماع المرافعة يكون لديه وقائع من أقوال الخصوم ودفوعهم، ومن البينات وما يتعلق بها، ولا يمكنه الحكم في الواقعة إلا بعد تهيئة وقائعها المؤثرة مهذبة مرتبة كأنه لم يذكر معها سواها([119])، ولا يكون ذلك إلا بالتنقيح.
وهذا التنقيح هو المعتد به عند الحكم القضائي، ويأتي على التنقيح الابتدائي بالتعديل والإكمال.
تنبيه:
تنقيح الواقعة الفتوية يتم على مرحلة واحدة فقط تعد نهائية في الفتوى؛ لأن الواقعة الفتوية لا تحتاج إلى الإثبات.
المطلب الرابع: إثبات الواقعة القضائية.
المراد به: إقامة الدليل لدى القاضي على الواقعة المؤثرة في الحكم القضائي بالطرق التي قررها الشرع([120]).
طرق إثبات الواقعة القضائية:
المراد بطرق إثبات الواقعة القضائية: البينة الشرعية، وهي كل ما أبان الحق وأظهره عند المنازعة لدى القاضي، بأي دليل كان مما شهد الشرع لأصله.
فطرق الإثبات غير محصورة، بل كل ما أبان الحق وأظهره مما شهد الشرع لأصله، فإن القاضي يأخذ به لإثبات الوقائع، سواء كان ذلك إقراراً، أم كتابة، أم شهادة، أم يميناً، أم نكولاً، أم قرينة، أم غيرها من طرق الحكم والإثبات التي تبين الحق وتظهره، سواء مما تقرر بالكتاب والسنة، أم استنبط العلماء مشروعيته منهما، سواء مما تقرر بالكتاب والسنة، أم استنبط العلماء مشروعيته منهما، أم جد من طرق ووسائل الإثبات والحكم مما شهد الشرع لأصله، كتحليل الدم، وبعض وسائل كشف الجريمة التي استجدت وغيرها، فإن طرق الحكم هي من أدلة وقوع معرفات الأحكام والتي لا تنحصر([121]).
المطلب الخامس: تفسير الواقعة القضائية.
المراد بتفسير الواقعة القضائية:
المراد بلفظ (التفسير) في اللغة: الكشف، والبيان، والإيضاح([122]).
والمراد بتفسير الواقعة القضائية هنا: بيان معاني ودلالات الأقوال والأفعال، والسكوت والأحوال الواقعة في التصرفات، والواردة في الدعوى والإجابة، وطرق الحكم والإثبات من الشهادة ونحوها من الأوصاف والوقائع المؤثرة في الحكم القضائي([123]).
أهمية تفسير الواقعة القضائية ومشروعيته:
لا بد لكل واقعة قضائية من تصورها، وتنقيحها، وبيان تأثيرها، وثبوتها بطرق الحكم، وبيان وجه الدلالة منها وانتفاء معارضها، وكل ذلك لا يتحقق إلا بعد تفسيرها، وفهمهما بالطرق المقررة([124]).
وما ذلك إلا لأنه كما يقول القرطبي (ت 671هـ): "الأحكام تختلف باختلاف العبارات، والدعاوى، والإقرارات، والشهادات، والشروط التي تتضمن حقوق المحكوم له"([125]).
والمكلف وهو يتكلم بأمر أو نهي أو إقرار أو عقد، قد يطلق الكلام ولا يقيده أو يفسره، بل إن تفييده أحياناً يعد إعياء في الكلام، فيتعين على من ينفذ كلامه أو يحاكمه فيه أن يحمله على وجوه تفسير الكلام المقررة، يقول ابن مفلح (ت: 763هـ): "ومن قصد بيان تعليق الحكم بالوصف، رتبه عليه، ولم يتعرض لجميع شروطه وموانعه([126])؛ لأنه عسر؛ إذ القصد بيان اقتضاء السبب للحكم، فلو قال: اعط هذا للفقراء أو نحوهم، استأذنه في عدوه وفاسق، ولو قال: إلا أن يكون أحدهم كذا وكذا، عد لكنه وعيا، وكذا قول الطبيب: اشربه للإسهال، فعرض له ضعف شديد أو إسهال... ذكر ذلك شيخنا (يعني ابن تيمية) ([127]).
ففهم الواقعة وتفسيرها أمر لا بد منه للحكم القضائي، وقد أثنى الله - عز وجل - على سليمان - عليه السلام - لفهمه الواقعة ووجه الحكم فيها، كما في قوله تعالى: ﴿وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا﴾.
فثناء الله - عز وجل - على سليمان - عليه السلام - لفهمه الواقعة ووجهه الحكم فيها([128]) يؤكد أهمية تفسير الواقعة وتصورها للحكم فيها.
كما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على خالد بن الوليد - رضي الله عنه - قتله لبعض بني جذيمة؛ لعدم استفساره لهم عن مرادهم من كلمة مشكلة أطلقوها، فعن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد إلى بني جذيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولوا: أسلمنا، فجعلوا يقولون: صبأنا، صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر... حتى قدمنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرناه، فرفع النبي - صلى الله عليه وسلم - يديه، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، مرتين فقد حمل خالد - رضي الله عنه - معنى قولهم: "صبأنا " على خروجهم من دين إلى دين غير الإسلام، لكن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنكر عليه الأخذ بهذا الظاهر قبل الاستفسار عن المراد به([129])، قال ابن حجر (ت: 852 هـ): قوله: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد يعني من قتله الذين قالوا: "صبأنا " قبل أن يستفسرهم عن مرادهم بذلك القول "، فدل على أنه لا بد من تفسير الواقعة وفهمها قبل الحكم فيها.
وقد أوصى عمر - رضي الله عنه - القضاة بفهم الواقعة وتفسيرها في كتابه الذي بعثه إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - فقال: "فافهم إذا أدلى إليك"([130])، وقال: "الفهم الفهم فيما يختلج في صدرك"([131]).
فلا بد لفهم الواقعة وتصورها من تفسيرها، فالمطلوب من الحاكم كما يقول ابن القيم (ت: 751 هـ): "أن يعلم ما يقع، ثم يحكم فيه بما يجب"([132]).
وقد ذكر الفقهاء جملة من الآداب للقاضي تعود لفهم الواقعة وتصورها وتفسيرها، من ذلك: كون القاضي عارفاً بلغة ولهجات البلد التي يلي الحكم فيها([133])، يقول ابن المناصف (ت: 620هـ) في شروط الكمال في القاضي: "أن يكون عارفاً بما لا بد منه من العربية، واختلاف المعاني للعبارات، فإن الأحكام تختلف باختلاف العبارات في نحو الإقرار والدعوى والشهادات.." ([134]).
الوسائل الدالة على الإرادة:
القصد والإرادة عماد التصرفات والالتزامات التي يجريها المكلف، ولكن القصد والإرادة مكنونة لا تظهر بنفسها، بل لا بد لها من وسيلة تبرزها وتدل عليها، والوسائل الدالة على الإرادة ثلاث، هي: اللفظ، والفعل، والسكوت.
فهذه هي الوسائل الدالة على الإرادة، وما عداها فهو يعود لها، فالكتابة تعود للفظ، والإشارة تعود للفعل([135]).
يقول ابن القيم (ت: 751هـ): "فمن عرف مراد المتكلم بدليل من الأدلة وجب اتباع مراده، والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو إيماءة، أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها"([136]).
الأصل في تفسير لفظ المكلف:
الأصل أن ما يجري على تفسير النصوص الشرعية من أصول وقواعد يجري في الجملة على تفسير كلام المكلف في تصرفاته، وإقراراته، ودعاواه، ودفوعه، وبيناته، ففيها الواضح من نص وظاهر، وفيها المجمل الذي يلزم تفسيره وبيانه بطرقه المقررة، وفيها المؤول الذي يصرف عن ظاهره بدليل راج، وفيها العام والخاص، والمطلق والمقيد، وما دلالته منطوق، ومفهوم موافقة أو مخالفة، وفيها ما يقع فيه التعارض([137]).
وللقرائن الحالية والمقالية والأعراف في الدلالة على الكلام وغيرها أثر كبير في تفسير الوقائع ودفع التعارض..
وثم اختلاف في بعض ذلك بين دلالتها في نصوص الشرع وكلام المكلفين استدعاه أن كلام الشارع نحتاج إلى تعديته من واقعة منصوص عليها إلى غيرها لتقرير حكمها.
أما كلام المكلف فإنما جعل للكشف عن إرادته وتصرفاته، ولا يستدعي الأمر تعديته، بل الأصل قصره، والاحتياط للمكلف بعدم إلزامه بدلالة لم يظهر ما يدل على التزامه بها، قال المارودي (ت: 450هـ): "أحكام الشرع يجمع فيها بين اعتبار الأسامي والمعاني، وأحكام الإيمان معتبرة بالأسامي دون المعاني؛ لأن الضرورة دعت في المسكوت عنه في أحكام الشرع إلى اعتبار المعاني وتجاوز الأسامي، ولم تدع الضرورة في الأيمان إلى اعتبار المعاني، فوقفت على اعتبار الأسامي"([138]).
وما يقال في تفسير الواقعة القضائية ينطبق في الجملة على تفسير الواقعة الفتوية([139]).
المبحث الثالث: أصول تنزيل الأحكام على الوقائع، وفيه تمهيد، وخمسة مطالب:
التمهيد: المراد بأصول تنزيل الأحكام على الوقائع وبيان ثمرتها.
المراد بأصول تنزيل الأحكام على الوقائع:
هي طائفة من القواعد والضوابط تعين القاضي وكذا المفتي على تحديد الحكم الكلي الملاقي للدعوى، وتنزيله على الواقعة([140]).
فهي أمور كلية يقصد بها ضبط الاجتهاد القضائي والفتوي ببيان الطريقة التي يكون بها إجراء الحكم الكلي على محله من الوقائع مراعياً خصوصية كل واقعة وما يحف بها من أحوال ومقتضيات تؤثر في ضبط تنزيله على الواقعة وتقريره، وقد تقتضي هذه الأصول زيادة قيد في الحكم الكلي، أو حذفه، أو الانتقال من حكم كلي إلى آخر أكثر ملاءمة لحل النزاع([141]).
ثمرة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع:
تظهر ثمرة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع في أنها تعين القاضي على تحديد الحكم الكلي الملاقي للدعوى، وذلك بتمييزه من عدة أحكام مشابهة له أو متداخلة معه، أو باستنباطه بالاجتهاد.
كما تعين على ضبط تنزيل الأحكام على الوقائع الذي يجري تقريره بإجراء الحكم الكلي على محله من الوقائع، فتعين بذلك على تحديد نطاق تطبيق الحكم الكلي على الوقائع.
كما أن تلك الأصول التي سوف يأتي ذكرها تعد قواعد مشتركة في تفسير الأحكام الكلية والوقائع القضائية والفتوية([142]).
وأصول تنزيل الأحكام على الوقائع هي كالتالي:
1 - النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع.
2 - مراعاة مقصد الشرع وحكمة التشريع.
3 - مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص.
4 - مراعاة الضرورات والحاجات.
5 - مراعاة درء الحدود والقصاص بالشبهات.
وسوف نتحدث عن كل أصل في مطلب مما يلي:
المطلب الأول: الأصل الأول: النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع.
النظر في مآلات الأفعال (الوقائع) مأموراً بها أو منهياً عنها أمر لا بد منه عند تنزيل الحكم عليها والفصل فيها، فهو مقصود شرعاً.
فإذا كان الفعل يؤدي إلى أمر غير محمود شرعاً منع على المكلف وإن كان في أصله جائزاً أو واجباً.
فقد ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل المنافقين مع علمه بهم، وذلك حتى كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه جابر بن عبد الله - رضي الله عنه -: لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه.
ومراعاة هذا الأصل - أعني النظر في المآلات - عند تنزيل الأحكام الكلية على الوقائع معدود من صفات أهل الرسوخ في العلم، يقول الشاطبي في بيان صفة العالم الراسخ: "إنه ناظر في المآلات قبل الجواب على السؤالات"([143]).
فالقاضي - بل والمفتي - وهو يقوم بتنزيل الحكم على الواقعة لا بد له من التبصر في ذلك بأن يقدر عواقب ما يقرره ناظراً إلى أثره أو آثاره، فإن لم يفعل كان عمله خطأً مضيعاً للحقوق، أدخله في الشرع اعتماداً منه على تأويل ظهر له لم يلتفت فيه إلى عواقبه ومآلاته([144]).
يقول ابن القيم (ت: 751هـ): "فالحاكم إذا لم يكن فقيه النفس في الأمارات، ودلائل الحال، ومعرفة شواهده، وفي القرائن الحالية والمقالية، كفقهه في كليات الأحكام - أضاع حقوقاً كثيرة على أصحابها، وحكم بما يعلم الناس بطلانه، لا يشكون فيه اعتماداً منه على نوع ظاهر لم يلتفت إلى باطنه وقرائن أحواله"([145]).
فعلى القاضي - وكذا المفتي - وهو يقوم بتنزيل الأوصاف الكائنة في الحكم الكلي عليها أن ينظر نظراً خاصاً في الحكم الذي حدده لتطبيقه على الواقعة، ولا يقطع نظره عن النظر في مآل الواقعة لو طبق عليها ذلك الحكم الكلي، بل عليه مراعاة مآل الواقعة، فإن ظهر له عدم المواءمة بين الحكم الكلي ومآله على الواقعة، أعاد النظر مرة أخرى في ملاقاة الحكم للواقعة، وطلب غيره مما يكون أقعد بمراعاة مآلها، أو أضاف على الحكم، أو حذف منه من القيود ما يحقق النظر في ذلك المآل طلباً أو منعاً.
وإن رأى المواءمة بينهما طبقة على الواقعة وحكم وألزم، يقول الشاطبي (ت: 790 هـ): "النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل مشروعاً لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ"([146]).
إن على القاضي - وكذا المفتي - وهو يقوم بتنزيل الأحكام الكلية المجردة على الوقائع أن يلحظ ظروف وأحوال وملابسات ومآلات الواقعة وآثارها، فيعمل على المواءمة بين مقتضيات الحكم الكلي مجرداً وبين الواقعة لاحظاً ما ذكرنا([147]).
ومن صور ذلك أن الحكم إذا كان يؤدي في مآله إلى الفتنة والفساد على الدين أو الأمة فإن القاضي يتوقى ذلك المآل بالقيود الدافعة له زيادةً أو نقصاً، أو يعدل عنه إلى حكم آخر، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ) في الرد على الذين أنكروا عليه الفتيا في بعض المسائل وقرروا حبسه إذا لم يمتنع عن ذلك: "إن هذه الأحكام مع أنها باطلة بالإجماع فإنها مثيرة للفتن، مفرقة بين قلوب الأمة، متضمنة للعدوان على المسلمين، والحكم بما أنزل الله فيه صلاح الدنيا الآخرة، والحكم بغير ما أنزل الله فيه فساد الدنيا والآخرة، فيجب نقضه بالإجماع"([148]).
ولا يعني النظر في المآلات عند الحكم والفتيا أن القاضي أو المفتي يعمل استحسانه العقلي مجرداً من النصوص الشرعية وأصول الشريعة، فمن فعل ذلك فهو متشه قد رد الناس إلى هواه، وجعل طلب غير الشريعة مبتغاه، وكان آثماً مأزوراً غير مأجور([149])، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): "فمن استحل أن يحكم بين الناس بما يراه هو عدلاً من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر، فإنه ما من أمة إلا وهي تأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه أكابرها"([150]).
ويقول الجويني (ت: 478هـ): "من ظن أن الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء ومقتضى رأي الحكماء، فقد رد الشريعة، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة"([151]).
والمعتد به في المآلات ما شهد له الشرع طلباً أو منعا
بنصوص الشريعة وأصولها حسب المسالك الشرعية([152]).
المطلب الثاني: الأصل الثاني: مراعاة مقصد الشرع وحكمة التشريع.
إن القاضي والمفتي وهما يقومان بتنزيل الحكم على الواقعة عليهما مراعاة مقاصد الشرع وحكمته، فالشرع له مقاصد في الأحكام، سواء كانت هذه المقاصد عامة أم خاصة أم جزئية، وإذا كانت معرفة مقاصد الشرع في مجال تفسير الأحكام الكلية من الأهمية بمكان، فإن معرفتها عند تنزيل الأحكام على الوقائع لا يقل أهمية عن ذلك، فهي تعين القاضي - وكذا المفتي - على تحديد وصف الواقعة ابتداء، كما ترجح بعضها على بعض عند تعدد الاحتمالات فيها، ذلك أن تنزيل الحكم الكلي على الأعيان والوقائع مشخصة يتطلب نظراً خاصاًِ يراعى فيه خصوصية الواقعة بأحوالها وظروفها وملابساتها، ومقاصد الشريعة وحكمتها من وراء ذلك تحوطه وتوجهه، فتعين على معرفة قبول المحل للحكم الكلي، أو عدم قبوله لذلك([153]).
يقول ابن القيم (ت: 751هـ): "الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل"([154]).
فالمنافع والمضار التي تبنى عليها مقاصد الشرع وحكمته إضافية، بمعنى أنها منافع أو مضار في حال دون حل ولشخص دون شخص، أو في وقت دون وقت([155])، فمعرفة مقاصد الشرع وحكمته في الواقعة مما يرجح احتمالاً على آخر في التفسير، وقولاً على آخر عند الاختلاف، وهو مما يعين على تنزيل الحكم على الواقعة([156]).
المطلب الثالث: الأصل الثالث: مراعاة الفروق بين الوقائع والأشخاص.
إن القاضي والمفتي وهما يقومان بتنزيل الأحكام على الوقائع لا بد لهما من النظر في خصوصيات الوقائع والأشخاص، وما بينهما من فروق مؤثرة وأوصاف مقررة.
فقد يكون للشخص المتقاضي من مدع أو مدعى عليه أو للواقعة المتنازع فيها أو لواقعة الفتوى خاصية تستدعي حكماً لا يطبق على نظائرها؛ لوجود وصف مؤثر متعلق بالشخص أو الواقعة استدعى المغايرة في الحكم([157]).
يدل على ذلك ما رواه سعيد بن سعد بن عبادة قال: كان بين أبياتنا إنسان مخدج ضعيف لم يرع أهل الدار إلا وهو على أمة من إماء الدار يخبث بها وكان ومسلماً، فرفع شأنه سعد إلى رسول - صلى الله عليه وسلم - فقال: اضربوه حده، قالوا: يا رسول الله، إنه أضعف من ذلك، إن ضربناه مائة قتلناه، قال: فخذوا عثكالاً فيه مائة شمراخ، فاضربوه به ضربة واحدة وخلوا سبيله.
ففي ضرب هذا الرجل بعثكال فيه مائة شمراخ بدلاً من مائة سوط مفرقة مراعاة لضعفه؛ لأنه لا يطيق الجلد بالسوط مفرقاً، كما يضرب غيره من الأصحاء([158])؛ لقوله تعالى: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ﴾.
كما يدل على مراعاة خصوصيات الأشخاص والأعيان ما رواه أبو ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً، وإني أحب لك ما أحب لنفسي، لا تأمرن على اثنين، ولا تولين مال يتيم، فقد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر - رضي الله عنه - بهذا الحكم، وهو نهيه عن الإمارة ولو على اثنين، وعن ولايته على مال اليتيم؛ لأن أبا ذر رجل ضعيف لا يصلح للقيام بمثل هذه الأعمال، مع أن الأصل ترغيب عموم الناس في القيام بهذه الأعمال لحاجة الناس إليها، بل لقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - نفسه يرغب فيها، فقد رغب في الحكم والقضاء بين الناس في أحاديث متعددة، منها ما حدث به عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لا حسد إلا في اثنتين: رجل أتاه الله مالاً، فسلطه على هلكته في الحق، وآخر أتاه الله حكمة فهو يقضي بها ويعلمها.
كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرغب في كفالة اليتيم، ومن ذلك ما حدث به سهل بن سعد - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا، وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً.
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا ذر عن تلك الولايات مع عظيم دينه وفضله؛ لما رأى به من الصفات التي لا تمكنه من القيام بها([159]).
فمراعاة خصوصيات الوقائع والأشخاص أمر مقرر في القضاء والفتيا، يقول الشيخ عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1258هـ): "القصد من التشريع والأوامر تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين، أو تفويت أدنى المصلحتين، واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير، فمن أهمله وضيعه فجنايته على الناس وعلى الشرع أعظم جناية"([160]).
المطلب الرابع: الأصل الرابع: مراعاة الضرورات والحاجات.
المراد بالضرورة ومعنى مراعاتها عند تنزيل الحكم على الواقعة:
المراد بالضرورة: ما يطرأ على الإنسان مما في ترك مراعاته هلاك أو ضرر شديد يلحق الضروريات الخمس من الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال([161]).
وسواء كانت الضرورة في الغذاء، أم الدواء، أم الانتفاع بمال الغير، أم القيام بالفعل تحت تأثير الإكراه، أم الدفاع عن النفس ونحوها، أم ترك الواجبات الشرعية المفروضة([162]).
فكل ذلك حالات استثنائية تسوغ للمكلف ترك الأحكام الجزئية المقررة لعموم المكلفين نصاً أو استباطاً، ليدخل بحسب ما طرأ عليه في العمل بالأحكام الجزئية المقررة للضرورة.
فالمكلف ينتقل من الوجوب أو الحرمة إلى الإباحة، أو من الإباحة إلى الوجوب أو الحرمة، أو من الحرمة إلى الإباحة أو الوجوب، أو إلى تأخير الواجب من أمر ونهي عن وقته ودفعاً للضرورة في غالب ظنه([163]).
والمكلف عند مراعاة الضرورة انتقل من مناط إلى مناط آخر، ولا يعد ذلك خرقاً للتشريع ولا خروجاً عن أحكام الشرع؛ لأن أصول الشريعة اقتضت له حكماً قبل الضرورة، كما اقتضت له حكماً آخر بعد الضرورة، وإنما معنى مراعاة الضرورة أنه إذا طرأت الضرورة انفردت من كليات جنسها، ولحقت بحكم جزئي خاص بها وما ماثلها، فالأحكام ثابتة قارة تتبع أسبابها حيث كانت، والمكلف ينتقل من مناط إلى مناط، ولا غرو في تبعية الأحكام للأحوال؛ لأن الحظر والإباحة صفات أحكام لا صفات أعيان([164]).
ويدل على أصل مشروعية الضرورة قوله تعالى: ﴿وَمَا لَكُمْ أَلا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ﴾، فقد استثنى الله - عز وجل - ما اضطر إليه الإنسان من طعام، فأجاز أكله وإن كان لا يحل له حال الاختيار([165]).
الحاجة تراعى كالضرورة:
المراد بالحاجة: ما يطرأ على الإنسان مما في ترك مراعاته مشقة وحرج شديد خارج عن المعتاد في الضروريات الخمس، وإن لم يبلغ درجة الضرورة([166]).
وفرق بعض العلماء بين الحاجة والضرورة، فقال: إن الضرورة لا يستغنى عنها، والحاجة يمكن الاستغناء عنها([167]).
والحاجة تراعى سواء كان ذلك في العبادات أم في المعاملات أم في الجنايات، فما كان على تلك الصفة فهو ملحق بالضرورة؛ ولذا قال العلماء: الحاجة تنزل منزلة الضرورة عامة كانت أو خاصة([168]).
ومما يجدر التنبيه عليه أن أغلب الفقهاء يستعملون كثيراً مصطلح (الضرورة) مكان مصطلح (الحاجة)، ولا مشاحة في الاصطلاح إذا ظهر المراد([169]).
المطلب الخامس: الأصل الخامس: مراعاة درء الحدود والقصاص بالشبهات.
هذا أصل عظيم عند تنزيل الأحكام على الأقضية الجنائية من الحدود والقصاص.
المراد بدرء الحدود والقصاص بالشبهات:
هو دفع وإسقاط العقوبة الحدية أو القصاص لقيام الشبهة القوية([170]).
الشبهة المؤثرة في درء الحدود والقصاص:
الشبهة المؤثرة في الدرء: هي الشبهة القوية المحتملة، لا مطلق الشبهة.
فالشبهة المؤثرة: هي التي تشبه الثابت وليس بثابت([171])، أي: تشبه الحقيقة الثابتة بأن تكون قوية.
أو: هي وجود المبيح صورة مع انعدام حكمه أو حقيقته([172])، وذلك كمن وطأ امرأة أجنبية يظنها زوجته.
فقد وجد المبيح صورة في ظن الواطئ، وهو عقد الزوجية الذي هو سبب النكاح، فإذا لم يثبت حكمه وهو الإباحة بقيت صورته شبهة دارئة للحد.
ودرء الحدود بالشبهات مجمع عليه بين الفقهاء([173]).
ومما تجدر الإشارة إليه أن التعزير لا يسقط بالشبهة، بل يثبت معها([174])، لكن ثم مبدأ آخر يطبق على عقوبة التعزير، وهو أن العفو عن العقوبة مقدم على إثباتها، وذلك إذا قام مقتضيه، كأن تكون البينات غير كافية في إيجاب التعزير ونحو ذلك، فإنه لا عقوبة إلا بحجة([175])، يقول ابن تيمية (ت: 728هـ): "فإذا دار الأمر بين أن يخطئ فيعاقب بريئاً أو يخطئ فيعفو عن مذنب، كان هذا الخطأ خير الخطأين، أما إذا حصل عنده علم أنه لم يعاقب إلا مذنباً، فإنه لا يندم، ولا يكون فيه خطأ"([176]).
القصاص يدرأ بالشبهة كالحدود:
القصاص يدرأ بالشبهة كالحدود، سواء كانت الشبهة في الفاعل كمن قتل قاتل مورثه وقد عفا أحد الورثة وهو لا يعلم بالعفو، فلا قصاص عليه، أم كانت الشبهة في المحل وذلك كأن يشهد الشهود على رجل بالقتل، ثم يرجعون عن ذلك فلا يقتص من المشهود عليه، أم كانت الشبهة باختلاف العلماء وذلك كأن يقتل ولي الدم ممسك وليه حتى قتل، فإن الولي الذي قتل القاتل لا يقاد؛ لأن له شبهة في مثله وهي اختلاف العلماء، فقد قال بعضهم بقتل الممسك([177]).
فعلى القاضي عند تنزيل الحكم على الواقعة في الحدود والقصاص مراعاة الشبهة المؤثرة في ذلك، سواء كانت في الفاعل أم المحل أم المدرك باختلاف العلماء، أم في تفسير إقرار المكلف ونحوه.
المبحث الرابع: وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية وطريقة تقريره، ومراحله، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية([178]).
المراد بوسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية:
هي الطرق التي يستعين بها القاضي في تنزيل الأوصاف الكائنة في الحكم الكلي على الواقعة القضائية.
ولتنزيل الأحكام على الوقائع وسيلتان، هما:
أ - القياس القضائي:
والمراد به: الاجتهاد في إدخال الواقعة الجزئية القضائية في الحكم الكلي الفقهي بواسطة القياس المنطقي لاشتراكهما في الأوصاف المؤثرة([179]).
حدود القياس القضائي:
هذا القياس القضائي كالقياس المنطقي له أربعة حدود، هي المقدمة الكبرى، والمقدمة الصغرى، والحد الأوسط، والنتيجة.
فمقدمته الكبرى: هي الحكم الكلي الفقهي المفسر، سواء كان مقرراً، أم اجتهد القاضي في تقريره.
ومقدمته الصغرى: هي الواقعة القضائية المؤثرة المنقحة الثابتة المفسرة، الخالية من موانع الحكم.
وحده الأوسط: هو الأوصاف المؤثرة المشتركة في الواقعة القضائية والحكم الكلي.
والنتيجة: هي الحكم القضائي الذي تبينه وتوضحه أسباب الحكم([180]).
وقد أشار ابن القيم (ت: 751هـ) إلى هذا، فهو يقول: "الحاكم محتاج إلى ثلاثة أشياء لا يصح له الحكم إلا بها: معرفة الأدلة، والأسباب، والبينات"([181]).
فالأدلة تبين الحكم الكلي الفقهي، والبينات تثبت الوقائع القضائية، والأسباب هي الأوصاف المؤثرة التي تعرف القاضي انطباق الحكم الكلي على الواقعة القضائية، أو انتفاءه عنها([182]).
ب- الاجتهاد المباشر:
والمراد به: تقرير القاضي تنزيل الحكم على الواقعة المؤثرة المنقحة بالحكم الكلي من غير التزام بشكل القياس المارّ ذكره سابقاً.
وهذه كانت طريقة الصدر الأول من الصحابة؛ إذ كان أحدهم يقرر الحكم في الواقعة بناءً على الأدلة والبراهين والحجج من غير التزام بشكل القياس، ولا قصد لموافقته أو مخالفته.
وهذه الطريقة وإن ساغ للقاضي سلوكها إذا ساق من الأدلة ما يؤيده، إلا أن الالتزام بالطريقة الأولى (القياس القضائي) مما يساعد على تنظيم التفكير القضائي، ويسهل على القاضي عمله ويسدد اجتهاده، ويكون أقرب لصوابه وأسرع لاجتهاده([183]).
وما قيل هنا في وسائل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية ينطبق على الوقائع الفتوية في الجملة.
المطلب الثاني: طريقة تقرير تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية.
طريقة تقرير تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية:
إن القاضي بعد أن يسمع الدعوى والإجابة ودفوع الطرفين، ويحدد الأوصاف المؤثرة ابتداءً، وينقحها باستبعاد طرديها وإبقاء مؤثرها، وينزل الحكم على الواقعة تنزيلاً أولياً، ويحدد ما اتفق عليه الخصمان، وما اختلفا فيه، ويسمع البينة من شهادة ونكول وغيرها طبق الأصل المقررة، فإنه يقوم بدراسة ذلك جميعه، ويمحص البينة مطرحاً ما لا يوصل منها، ومبقياً ما يوصل منها كدليل مستقل أو قرينة قوية في جانب أحد الخصمين، ويقرر ويستنبط الأوصاف المؤثرة من الوقائع والبينات مراعياً أصول تفسير الوقائع التي سلفت ومؤثر الأوصاف، ومستبعداً وملغياً طرديها، مستعيناً بتحليل الحكم الكلي إلى المعرفات والحكم مقابلاً بين المعرفات وبين الوقائع وصفاً وصفاً، وذلك بعد بيانهما وتفسيرهما بالطرق والأصول المقررة المار ذكرها، ومراعياً لذلك أصول تنزيل الحكم على الواقعة السالفة، والقاضي بهذه الخطوات يعد الواقعة ويهيئها لتنزيل الحكم عليها.
وبعد تهيئة الواقعة منقحة مفسرة في صياغة واضحة كأنه لم يذكر فيها سوى الأوصاف والوقائع المؤثرة مهذبة مرتبة، فإن القاضي يجري تنزيل الحكم على الواقعة بوساطة القياس القضائي، مقدمته الكبرى: الحكم الكلي الفقهي مبيناً مفسراً، ومقدمته الصغرى: الوقائع القضائية المنقحة المفسرة مهذبة مرتبة مهيئة لتنزيل الحكم عليها، فإذا تطابقت المقدمتان في حدهما الأوسط، وهو الأوصاف المشتركة المؤثرة في الحكم، صارت النتيجة: اتصاف الوقائع بالحكم الكلي الفقهي، وهذا هو المطلوب([184]).
وما قيل هنا ينطبق في الجملة على الوقائع الفتوية.
المطلب الثالث: مراحل تنزيل الأحكام على الوقائع القضائية.
مدخل:
إن القاضي وهو يقوم بتنزيل الحكم على الواقعة يخطو خطوات متوالية من مرحلة إلى أخرى، حتى ينتهي إلى تنزيل الحكم على الواقعة وتقرير حكمها القضائي، كما يفعل الطبيب في فحص مريضه ووصف الدواء له، فهو يبدأ بفحص المريض، فيقوم بفحصه فحصاً ابتدائياً بالاستماع إلى شكواه، والاستفسار عن أعراض مرضه، ثم فحصاً سريرياً بالفحص الحسي على المريض، وذلك بإرشاده إلى الجلوس على السرير ووضع الطبيب يده أو أصابعه على موضع الشكوى، أو أي مكان آخر من جسم الإنسان يساعد على تشخيصه، ونحو ذلك مما يساعد على كشف المرض سريرياً، ثم إذا لم تجد هذه الطريقة في الكشف عن أعراض المرض، أو احتاج الطبيب إلى زيادة التثبت من الأعراض انتقل إلى الفحص التكميلي بواسطة الأجهزة والآلات الحديثة المتطورة، كالأشعة والمناظير الطبيةبأنواعها، والتحاليل للدم وغيره.
ثم ينتقل بعد ذلك إلى تشخيص المرض، فيقوم بدراسة الفحوص التي أجراها، والتقارير التي أعدها المحللون؛ليحدد ويقرر من خلالها تشخيص الداء مستعيناً في ذلك بالمشاورة الطبية عند الاقتضاء.
ثم بعد ذلك ينتقل إلى تقرير العلاج سواء كان دواءً أم عملية جراحية، وهي مرحلة تبنى على ما سبقها، فإن كان التشخيص صحيحاً صار العلاج ناجعاً؛ لأن من عرف الداء سهل عليه معرفة الدواء([185]).
وهكذا العمل القضائي في تنزيل الأحكام على الوقائع يمر بمراحل واحدة بعد الأخرى حتى الحكم في القضية، وقد أشار ابن خلدون (ت: 808هـ) إلى مراحل تنزيل الحكم على الواقعة القضائية، فهو يقول: "يتأنى - يعني: القاضي - على المدعي حتى يذكر ما عنده كله، ويتفهمه حتى يعلم قطعاً مراده، ثم يسأل المدعى عليه رافقاً به متأنياً عليه حتى يذكر جميع ما عنده، ويتفهمه جهده، ثم يستجلي الحال منهما ومن العالم بواقعتهما بأحسن استجلاء، وبأشد إيضاح، إذا تصور الواقعة، كالشمس ليس دونها سحاب، فليميز بين ما اتفقا عليه وما اختلفا فيه، فإذا وضحت القصة جيداً، فليستحضر حكم تلك الواقعة لا برأي واستحسان، بل بالنقل الصريح، أو بذل الجهد في درك الحق من أهل الاجتهاد وبطرقه المعتبرة، ثم ينقح الواقعة بأخذ ما يتعين اعتباره وإلغاء ما لا مدخل له في الحكم بحذف، ثم يطبق الحكم العدل على ما ينقح له، فإذا وضح أنه طبقه سواء كرر النظر والتأمل والتفحص حتى يتبين ذلك كالشمس المضيئة، فإذا لم تبق مرية ألبتة، حكم وألزم"([186]).
فتنزيل الحكم على الواقعة القضائية يمر بخمس مراحل([187])، هي:
1 - سماع الوقائع وتحديد الطلبات.
2 - تنقيح الوقائع وتنزيل الحكم عليها ابتداءً.
3 - إثبات الوقائع المنقحة ابتداءً.
4 - دراسة الوقائع من دعاوى وبينات، وتنقيحها، وتنزيل الحكم عليها انتهاءً.
5 - فحص تنزيل الحكم على الواقعة.
وهذا بيان موجز لهذه المراحل.
المرحلة الأولى: سماع الوقائع وتحديد الطلبات.
والمراد بالوقائع هنا: الدعوى والإجابة ودفوع الخصمين.
وهي أولى خطوات تنزيل الحكم على الواقعة؛ لأنها مادته الأولى ومجاله الذي يعمل فيه، وهي التي توجب تحرك الحكم الكلي الفقهي لملاقاتها، ولا يمكن للقاضي تحقيق تنزيل الحكم على الواقعة إذا تجاوز هذه المرحلة؛ لأن تنزيل الحكم لا يستنبت في فراغ، بل في وقائع مقدمة للقاضي.
وتقديم الوقائع يقع على عاتق الخصوم، وإذا سكتوا عن شيء من الأوصاف المؤثرة استفسر القاضي منهم عنها.
وعلى الخصم في هذه المرحلة أن يلحظ تحديد طلبه في الدعوى؛ لأنه لا تصح الدعوى إلا به.
إن الخصوم يقدمون للقاضي الوقائع، ويحددون الطلبات، وهو يقدم لهم الحكم الكلي الفقهي الذي يجري تنزيله على الوقائع.
المرحلة الثانية: تنقيح الوقائع وتنزيل الحكم عليها ابتداءً:
إن الخصوم بعد أن يفرغوا من تقديم الوقائع من الدعوى، والإجابة، والدفوع، والطلبات يقوم القاضي بتنقيحها، وتنزيل الأحكام الإجرائية عليها من ناحية الاختصاص، وصحة الدعوى، وإكمال نقصها، وصحة الجواب، ودفع الخصومة، فإذا تحقق من صحة السير في الدعوى، بدأ في تنقيحها وتنزيل الحكم عليها موضوعياً، فاستبعد الوقائع الطردية، وأبقى الوقائع المؤثرة، وحدد وصف المتنازع فيه على ضوء الدعوى والدفوع والطلبات: هل هو خيار عيب، أو خيار شرط، أو جعالة، أو إجارة؟ ونحو ذلك؛ ليهيئ الواقعة بذلك لمرحلة الإثبات وما يتلوها، يقول علي حيدر (ت: 1354هـ): "والقاضي يستمع أولاً دعوى المدعي، ويوفق هذه الدعوى على إحدى المسائل الشرعية، فيستوضح القيود والشروط المقتضية"([188])، فعلى القاضي تحديد الحكم الكلي الفقهي الملاقي للواقعة ابتداءً قبل النظر في ثبوتها، ثم ينزله على الواقعة، وهذا يستدعي مقابلة الواقعة بالحكم الكلي وصفاً وصفاً، فما قابل الوصف المؤثر فهو الذي يعتد به، وما عداه فهو الطردي، فيثبت مؤثرها ويستبعد طرديها سواء كان طردياً مطلقاً أم طردياً في موضع النزاع، وذلك تهيئة للمرحلة التالية.
المرحلة الثالثة: إثبات الوقائع المنقحة ابتداءً:
بعد تنقيح الوقائع وإبقاء مؤثرها ينتقل القاضي إلى إثباتها، وعليه قبل التوجه إلى النظر في إثبات الوقائع المؤثرة أن يحدد إجرائياً من المدعي الذي يتوجه عليه الإثبات، ومن المدعى عليه الذي تتوجه عليه اليمين، ثم بعد ذلك على القاضي أن يميز ما اتفق عليه الخصمان من الوقائع المؤثرة المنقحة وما اختلفا فيه، ويوجه الإثبات إلى ما اختلفا فيه من الوقائع الأصلية أو التبعية الجائز إثباتها، وبعد الفراغ من إثبات الوقائع بطرق الحكم المقررة، وإجراء ما يلزم لذلك من الإعذار، والتزكية والتعجيز، ثم ينتقل القاضي إلى المرحلة التالية.
المرحلة الرابعة: دراسة الوقائع والبينات وتنقيحها وتنزيل الحكم عليها انتهاءً:
بعد فراغ القاضي من المرحلة السابقة عليه أن يدرس بعناية وتأمل ما قدمه الخصوم من دعوى، وإجابة، ودفوع، وطلبات، وبينات، وأن يتأمل ذلك ويفهمه جيداً، ويستخلص من الوقائع من دعوى، وإجابة، ودفوع، ومن البينات، وطرق الحكم ثبوت الوقائع المؤثرة في الحكم، وينقحها، ويهيئها لتنزيل الحكم عليها مهذبة مرتبة، كأنه لم يذكر معها سواها مستعيناً في ذلك بتحديد الحكم الكلي الفقهي، وطرق تفسير الوقائع والأحكام الكلية، وأصول تنزيل الأحكام على الوقائع، مراعياً الطلبات في الدعوى وانعدام الموانع، حتى إذا تنقحت له الواقعة وهيأها وحدد حكمها الكلي الفقهي، أجرى المطابقة بينهما بواسطة القياس القضائي، فإذا تحقق عنده اجتماع الوقائع مع الحكم الكلي الفقهي في حدهما الأوسط - وهي الأوصاف المشتركة المؤثرة في الحكم - قرر مطابقة الوقائع القضائية للحكم الكلي الفقهي، وهي النتيجة المطلوبة.
إن مناط تنزيل الحكم على الواقعة ابتداءً هو الدعوى، والإجابة وطلبات الخصوم، أما في تنزيل الحكم على الواقعة نهائياً فالمناط فيه: ما يثبت لدى القاضي من الوقائع والأوصاف المؤثرة، وما يستنبطه من الدعوى والإجابة ودفوع الخصمين وبيناتهم مراعى فيه طلبات الخصوم وأصول تنزيل الأحكام على الوقائع على ضوء ما يتقرر له من الحكم الكلي الفقهي.
المرحلة الخامسة: فحص تنزيل الحكم على الواقعة.
إن على القاضي متى تحرر له تنزيل الحكم على الواقعة قبل إعلانه وترتيب الحكم عليه بتقرير الحكم القضائي أن يراجعه، وذلك بمراجعة الخطوات التي سلكها لتقرير تنزيل الحكم على الواقعة من تنقيح الوقائع، وتعيين الواقعة المؤثرة، وطرق إثباتها، وفحص أدلتها واستنباطها، وتقريرها بطرق الحكم، وتحديد الحكم الفقهي الكلي الملاقي لها، مع مراعاة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع، وتفسير الوقائع والأحكام الكلية، مستعيناً في ذلك بتقمص شخصية المخالف، وفرض الاعتراضات والإجابة عليها، فإن رأى ما يستوجب العدول أو التعديل قرره، أو تأكد عنده بعد ذلك سلامة ما قام به من تنزيل الحكم على الواقعة قرره وأظهره.
الخاتمة: وفيها أبرز نتائج البحث والتوصيات المتعلقة به.
بعد الانتهاء من هذا البحث أذكر أبرز نتائجه والتوصيات التي أراها حوله.
أولاً: أبرز نتائج البحث:
1 - أن تنزيل الأحكام على الوقائع هو تطبيق الحكم الكلي على الواقعة في القضاء والفتيا وما في حكمهما من اكتمال ما يلزم لذلك.
2 - وجوب الاجتهاد في تنزيل الأحكام على الوقائع في الفتيا والقضاء، كما يجب تأهيل المفتي والقاضي لذلك.
3 - الفصل في القضاء والفتوى بحكم صحيح يستدعي تطبيقاً سليماً مستوفياً للضوابط التالية:
أ - تحديد الحكم الكلي الواجب التطبيق المبني على أصل صحيح مع تفسيره.
ب - الواقعة المؤثرة المفسرة، وكذا النظر في إثباتها عند التقاضي.
ج - مراعاة أصول تنزيل الأحكام على الوقائع، وهي كالتالي:
- النظر في المآلات عند تنزيل الأحكام على الوقائع.
- مقصد الشرع وحكمة التشريع.
- الفروق بين الوقائع والأشخاص.
- الضرورات والحاجات.
- درء الحدود والقصاص بالشبهات.
ثانياً: التوصيات:
أوصي في ختام هذا البحث بما يلي:
1 - وجوب الاعتناء بتأهيل القضاة ومن في حكمهم بالخبرة والتجربة مما يؤهلهم لتنزيل الأحكام على الوقائع.
2 - وجوب الاعتناء بتدريس موضوع تنزيل الأحكام على الوقائع في الكليات والمعاهد المتخصصة التي يتخرج فيها القضاة والمفتون ومن في حكمهم.
3 - الربط بين أصول الفقه وتنزيل الأحكام على الوقائع من خلال تدريس الحكم عند الأصوليين وبيان كيف يتم استثماره عند التطبيق على الوقائع في الفتيا والقضاء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المحامي فهد بن منصور العرجاني
ايميل :methag-alahd@hotmail.com
جوال / 0531111745
هاتفالمكتب /015444447
ص.ب 20066 رمز11942