المرتكزات الشرعية لتأصيل التدرج في تطبيق أحكام الشريعة
 
المراد بالمرتكزات هي الأسس والأصول الشرعية التي يتم بناء القول بالتدرج عليها، وهي أعم من الأدلة؛ إذ تشمل الأدلة وكلام أهل العلم.
المرتكزات ها هنا ثلاثة أنواع:
النوع الأول: ما فيه ممارسة للتدرج في الوحي أو عمل السلف، كما في دلالة خبر معاذ على التدرج في البيان، وتَرْك النبي صلى الله عليه وسلم للكعبة رفقًا بالناس ومراعاة للمفسدة المتوقعة، وما في ترك النبي صلى الله عليه وسلم لعقوبة المنافقين من تدرج بترك إنفاذ الحكم فيهم للمفسدة الغالبة، وما في قصة يوسف -عليه السلام- وخبر النجاشي -رضي الله عنه- ودلالة ممارسة عمر بن عبد العزيز على التدرج في التنفيذ.
النوع الثاني: المرتكزات التي تُستعمَل كمناط يؤذن بالتدرج فتكون بمثابة العلل في قياس التدرج الذي يمارسه صاحب السلطة على التدرج الذي في الممارسة النبوية أو السلفية.
فمن معاقد الإجماع في هذه المسألة أن في التدرج خروجًا عن الأصل الذي هو وجوب التحاكم والتحكيم والاستجابة والإنفاذ لأمر الله ورسوله: {وَمَا كَانَ لِـمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْـخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: 46].
يقولُ الدكتورُ القرضاويُّ تحت عنوان: "الأصلُ عدمُ المشاركةِ": "لا ريبَ أنَّ الأصلَ في هذه القضيةِ ألَّا يُشاركَ المسلمُ، إلَّا في حكمٍ يستطيعُ فيه أن ينفذَ شرعَ اللهِ في ما يوكلُ إليه من مهامِ الولايةِ أو الوزارةِ، وألَّا يخالفَ أمرَ اللهِ - تعالى– ورسولِه" (من فقه الدولة في الإسلام، ص178).
وهو ما يعني أن الخروج عن هذا الأصل بالتدرج سواء بالتشـريع -إن وجد من يجيزه- أو بالسكوت عن البلاغ أو بالسكوت عن الإنفاذ والإلزام، كل ذلك محوج إلى ما يؤذن به من الشريعة ويخرج المكلف عن رِبقَة الإثم الذي يحل به إن هو خالف أمر الله فيما ذكر.
بحيث يقول صاحب السلطة: سأتدرج ها هنا ولن أبلغ أو لن أنفذ وألزم بشرع الله لوجود علة شرعية يراعيها الشرع فتؤذن بهذا.
من هنا كان القول بالتدرج مؤسَّسًا على المرتكزات التالية:
1- نصوص الشرع الدالة على إيذان الإكراه بارتكاب بعض المحرمات وترك بعض الواجبات.
2- نصوص الشرع الدالة على إيذان حالة الضرورة بارتكاب بعض المحرمات وترك بعض الواجبات.
3- نصوص الشرع الدالة على أن الوجوب منوط بالاستطاعة والقدرة.
4- نصوص الشرع الدالة على أن الحاجة تؤذن بارتكاب بعض المنهيات وترك بعض الواجبات.
5- نصوص الشرع وقواعده الدالة على الموازنة بين المصالح والمفاسد ودرء المفسدة الغالبة ولو بترك بعض الواجبات وفعل بعض المنهيات التي دونها في المفسدة.
6- نصوص الشرع الدالة على الرفق بالناس(انظر تفصيل هذه الأدلة في بحثي: "واقع المسلمين بين فقه الاستضعاف وفقه التمكين").
النوع الثالث: نصوص بعض أهل العلم في تقرير جواز التدرج:
وأسوق لها مثالاً واحدًا، وهو قول شيخ الإسلام: "فَأَمَّا إذَا كَانَ الْـمَأْمُورُ وَالْـمَنْهِيُّ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْـمُمْكِنِ: إمَّا لِجَهْلِهِ، وَإِمَّا لِظُلْمِهِ، وَلَا يُمْكِنُ إزَالَةُ جَهْلِهِ وَظُلْمِهِ، فَرُبَّمَا كَانَ الْأَصْلَحُ الْكَفَّ وَالْإِمْسَاكَ عَنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ... فَالْعَالِـمُ فِي الْبَيَانِ وَالْبَلَاغِ كَذَلِكَ؛ قَدْ يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ وَالْبَلَاغَ لِأَشْيَاءَ إلَى وَقْتِ التَّمَكُّنِ، فَإِذَا حَصَلَ مَنْ يَقُومُ بِالدِّينِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَوِ الْأُمَرَاءِ أَوْ مَجْمُوعِهِمَا؛ كَانَ بَيَانُهُ لِـمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ شَيْئًا فَشَيْئًا بِمَنْزِلَةِ بَيَانِ الرَّسُولِ لِمَا بُعِثَ بِهِ شَيْئًا فَشَيْئًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الرَّسُولَ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ وَلَـمْ تَأْتِ الشَّرِيعَةُ جُمْلَةً... فَكَذَلِكَ الْـمُجَدِّدُ لِدِينِهِ، وَالْـمُحْيِي لِسُنَّتِهِ لَا يُبَلِّغُ إلَّا مَا أَمْكَنَ عِلْمُهُ وَالْعَمَلُ بِهِ... وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ إقْرَارِ الْـمُحَرَّمَاتِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْوَاجِبَاتِ؛ لِأَنَّ الْوُجُوبَ وَالتَّحْرِيمَ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ الْعِلْمِ وَالْعَمَلِ، وَقَدْ فَرَضْنَا انْتِفَاءَ هَذَا الشَّرْطِ، فَتَدَبَّرْ هَذَا الْأَصْلَ فَإِنَّهُ نَافِعٌ" (انظر: مجموع الفتاوى: 20/57 – 61. وقد سقت كلام الشيخ تامًّا ونصوصه في هذا كاملة في كتابي سابق الذكر).
سادسًا: صفة التدرج المأذون فيه وَفْق رؤية الباحث:
من الجلي أنه من الناحية التنظيرية فإنا لا نعلم أحدًا من التيارات الإسلامية يقول بالتدرج في التشريع؛ وإنما غاية كلامهم هو استعمال نوعَي التدرج (البلاغي - التنفيذي)، ولذلك فالذي سأبسطه هنا هو تأكيد بطلان استعمال التدرج التشريعي، مع ذكر صور خفية منه، ثم ذكر بعض الإشارات المهمة لضبط نوعي التدرج الباقيين، ولعلِّي ألخِّص رؤيتي حول هذه القضية في النقاط التالية:
1- مدار البحث في التدرج بأنواعه إنما هو على قاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد، وعلى الأصل المقرر أن "الشَّـرِيعَة جَمِيعهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْـمَفْسَدَةَ الْـمُقْتَضِيَةَ لِلتَّحْرِيمِ إذَا عَارَضَتْهَا حَاجَةٌ رَاجِحَةٌ أُبِيحَ الْـمُحَرَّمُ" (انظر: مجموع الفتاوى: 29/49)؛ حيث إن ترك بعض المأمور به وفعل بعض المنهي عنه هذا الترك الذي ينتج عن التدرج لا بد أن يكون لتحصيل مصلحة أعظم من مصلحة فعل وإنفاذ المأمور المعيَّن أو لدرء مفسدة أعظم من مفسدة فعل المنهي المعيَّن. ومتى اختل هذا الميزان -كأن يمكن البلاغ أو إنفاذ الشريعة والإلزام بها من غير مفسدة راجحة- لـم يجز التدرج، مع الإقرار بوجود مساحات للاجتهاد في تقرير غلبة المفسدة والمصلحة.
2- استعمال التدرج في محاله الصحيحة هو نفسه تطبيق للشريعة.
3- مما يُوسع دائرة الشريعة المطبقة من غير تدرج، الإلحاحُ على بيان الأساس الشرعي لمحاربة الفساد المالي والإداري وطلب صلاح البلاد والعباد وطلب النهوض والرقي بالأفراد والأمم ونحوه من المطالب المتفق على تحصيلها بين الإسلاميين وغيرهم فتكون المطالبة بها وتحصيلها تطبيق للشريعة لا يحوج إلى تدرج.
4- التدرج التشريعي بمعنى أن يُشرِّع صاحب السلطة تشريعًا جديدًا فيه تحليل ما حرم أو تحريم ما أحل الله بدعوى التدرج، حرام ليس في الشرع ما يُسوِّغه، والتشريع حق لله -عز وجل- لا يشركه فيه غيره، ولا يؤذن بارتكابه إلا إكراه محقَّق، وهذا لا يوجد في بابنا لإمكان الانحياز عن السلطة وتركها أصلاً، أو الانعزال عن الحقيبة التشريعية في هذا القطاع براءة لله -عز وجل- ومن الصور الخفية للتدرج التشريعي أن يأتي صاحب السلطة من الإسلاميين إلى جريمة حرَّمها الشرع وعاقب عليها بعقوبة معيَّنة بينما القانون يبيحها أو يخفف عقوبتها فيريد صاحب السلطة أن يضع لها عقوبة مدنية غير العقوبة المنصوصة في الشرع يزعم أنه يتدرج نحو العقوبة الشرعية، وهذا باطل وهو من منازعة الله في التشريع، ويؤدي إلى توطين مبدأ العقوبات المدنية واستبدالها بعقوبات الشـرع، وترك العلمانية صلعاء مقبحة للناس هكذا أحسن من تخفيفها بما يُضِل عن الوحي والشـرع، ومصلحة فرض عقوبة مدنية على الزانية -مثلاً- تنغمر في مفسدة التشريع من دون الله، وفي مفسدة ترقيق استبدال الشريعة في قلوب الناس.
5- التدرج في البلاغ والتدرج في التنفيذ جائزان، تدل عليهما أدلة الشـرع العامة والخاصة، مع التنبيه إلى أنهما بمنزلة العفو والسكوت لا بمنزلة التحليل والتشـريع، ولذلك يقول شيخ الإسلام في حد هذا التدرج: "الْعَفْوَ عِنْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ؛ لَا التَّحْلِيلَ وَالْإِسْقَاطَ".
6- ترك الإلزام بالشريعة في زماننا والسكوت عن القوانين الوضعية وعدم السعي المباشر لتغييرها أكثره بسبب المفسدة المتوقَّعة من مثل هذا السعي سواء من نفرة داخلية أو ضغط دولي خارجي، ومراعاة غلبة المفسدة في ذلك نص عليها العلماء، فيقول شيخ الإسلام: "والأصل أن هذه الواجبات تقام على أحسن الوجوه. فمتى أمكن إقامتها مِن أمير لم يُحتَج إلى اثنين، ومتى لم يقم إلا بعدد ومِن غير سلطان أقيمت إذا لم يكن في إقامتها فساد يزيد على إضاعتها، فإنها من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن كان في ذلك من فساد ولاة الأمر أو الرعية ما يزيد على إضاعتها لم يدفع فساد بأفسد منه" (مجموع الفتاوى: 34 / 176).
7- إلا أن عدم السعي المباشر لا ينفي السعي التدريجي فما لا يدرك كلُّه لا يترك جلُّه والميسور لا يسقط بالمعسور، واستعمال آليات الديمقراطية والتشريع البرلماني في ذلك جائز من باب الحاجة والضرورة على أن تكون صياغة ذلك هي المطالبة بإنفاذ شرع الله في ذلك تحاكمًا للمادة الدستورية القاضية بمصدرية الشريعة، ولا يصاغ ذلك في صورة مدنية تُخضِع الشريعةَ فيه للتصويت من جانب المطالب مع جواز التصويت إن طرحها غيرنا.
8- التأمل في كيف ترك النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة على حالها مراعاة لحال قريش، وكيف ترك عقوبة المنافقين لغلبة المفسدة، ثم حرصه على أن تُحدَّ المرأة المخزومية يدل على وجوب النظر في كل حكم شرعي بحسبه وألا يجعل التدرج وقانونه وأصوله قواعد كلية تطبَّق على فترة زمنية شاملة أو نظام حكم بأكمله؛ وإنما يجب على المجتهد النظر في كل حكم يريد أن يترك بلاغه أو إنفاذه بدعوى التدرج، وأن يكون هذا النظر في كل حكم على حدة، وأن يوزن كل حكم وما يقترن به من دواعٍ للتدرج وموانعٍ منه وزنًا خاصًا ليُخرَج بحكم تبرأ الذمة به ويستحق صاحبه أجر الاجتهاد أصاب أم أخطأ. أما غير ذلك من الأقوال المطلقة في ترك إنفاذ شريعة الله أو إبلاغها بدعوى التدرج ومن غير اجتهاد خاص متأنٍّ؛ بل بعضها باجتهاد على الهواء لم تستغرق مدته سوى ما بين انتهاء سؤال المذيع التليفزيوني إلى بداية الإجابة... كل ذلك عبث بالشريعة وتلاعب بها.
9- التدرج في البيان لا يعني النطق بالباطل، ولا يجوز ذلك إلا في حدود ضيقة وأكثر المأذون فيه هو السكوت. أما عبارات من نوع لن نمنع كذا، ولن نمنع كذا كما ورد في عبارة الدكتور الكتاتني فلا بد من اقترانها ببيان ما يعتقده من تحريم الله لذلك وأن هذا الترك للمنع إنما هو تنفيذي وليس إقرارًا لحق.
10- أن الحاجة للتدرُّج في حكم من الأحكام أو بعض الأحكام يحتاج حاجة ماسَّة إلى معرفة تامَّة بالواقع الذي تتشابك فيه العلاقات من شؤون اجتماعية واقتصادية وسياسية داخلية وخارجية؛ لأن هذه المعرفة هي وحدَها التي ستمكِّننا من تقدير المفاسد المترتبة على ترك التدرُّج أو على التدرُّج والحاجة إليه، لمعرفة ما إذا كان التدرُّج واجبًا أو غير جائز. وهذا يبيِّن الضرورة القصوى لمعرفة العالم الشرعي بالواقع؛ لأن جزءًا من أحكامه لا يتم تصوُّر مسائلها إلا بإدراكٍ كاملٍ للواقع محلِّ الحكم (بتصرف من مقال قصير للشيخ الشريف حاتم العوني بعنوان: "تطبيق الأحكام بين التدرج والهجوم").
11- حد المفسدة الغالبة التي تؤذن بترك الإلزام بالشريعة، هو أن يؤدي الإلزام لنفرة شعبية تفسد أمور البلاد وتعظم فتنتها. أما إن كان مَن في السلطة غالبًا مسيطرًا فلن تحصل هذه النفرة سوى بصورة لا تؤثر ولا تعظم مفسدتها، فيجب عليه الإلزام بالشـريعة مع الرفق في هذا الإلزام وليس الرفق الذي يؤدي لترك الإلزام. يقول شيخ الإسلام: «فليس حُسن النية بالرعية والإحسان إليهم أن يفعل ما يهوونه ويترك ما يكرهونه، فقد قال الله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْـحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ} [المؤمنون: 71]، وقال -تعالى- للصحابة: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] ، وإنما الإحسان إليهم فعل ما ينفعهم في الدين والدنيا ولو كرهه من كرهه؛ لكن ينبغي له أن يرفق بهم في ما يكرهونه؛ ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا كان العنف في شيء إلا شانه"(مجموع الفتاوى: 28/364).
 
 
 
 
المحامي فهد بن منصور العرجاني
للاستشارة : 0531111745
أيميل methag-alahd@hotmail.com