اسم المستخدم: كلمة المرور: نسيت كلمة المرور



 

     
 
 
التاريخ
11/8/2009 6:19:07 PM
  الطريق الثالث و دور الدولة علامة استفهام      

أصرت كافة الأدبيات الدستورية على أن دور الدولة إما أن يكون اشتراكى أو راسمالى و رسمت لهذا الدور خطاً واضحاً فى كل منها ، و تجاوزت ذلك إلى أن قالت بأن الدولة فى النظامين لها مواصفات خاصة و تعبر عن فكر منهجى محدد على سبيل الجمود لا يتغير بتغير الظروف و لا المجتمعات
و هو ما أدى إلى أن أغلقت الدول و الحكومات أبوابها على نفسها و انكفأت على مجتمعاتها لتمارس دورها المرسوم بحرص شديد  و بعناية و اهتمام فائقين لفترة زمنية طويلة وصلت إلى قرن من الزمان و زيادة فى بعض الأحوال
و لكن أصابت العديد من المجتمعات الكثير من الأحداث و الظروف ما جعل مفهوم الدولة شديد الوضوح يتماهى فى اشكال تم النظر إليها تاريخياً على أنها من النظام المقابل ، و بخاصة بعد انهيار النظام الشيوعى فى دول الاتحاد السوفيتى و بزوغ دول اشتراكية غنية بالثروات و الصناعات ورثت من النظام السوفيتى ترسانة ضخمة من الأسلحة و الصناعات المختلفة و المعادن أثمرت مجتمعات غنية و أفراداً يحوزون قدراً كبيراً من الثروة برغم أعدادهم الكبيرة
و هو ما تناقض ايضاً مع بزوغ أعداداً كبيرة من المهمشين و الفقراء فى النظم الراسمالية برغم قيامهم بأعمالهم لساعات طويلة ، فكان التناقض الصارخ فى هاتين الصورتين ما أنتج التفكير فى استعارة بعض محاسن النظامين فى الآخر ليظهر هذ المصطلح الجديد الغير مسبوق على مر سنوات طويلة و هو مصطلح الطريق الثالث .
و تأتى الفكرة الجوهرية لذلك المصطلح من استعارة الرعاية الاجتماعية و الاقتصادية للفئات الأقل قدرة على المقاومة و الأقل اعتماداً على الذات من الناحية الاقتصادية من النظم الاشتراكية بجانب الرعاية القومية لرؤوس الأموال و المشروعات الاقتصادية الخاصة ، فنتج عن ذلك الخليط الحفاظ على الهوية الاقتصادية الرأسمالية و منح ضمانات أكثر للفئات الأقل قدرة تنافسية و الذين كانوا يرمز إليهم تاريخياً بذوى الياقات الزرقاء بجانب ذوى الياقات البيضاء و هى المصطلحات الدبلوماسية للعمال -تحديداً - و أصحاب رؤس الأموال على التوالى و فى مجتمع مثل مصر أضيف إليهم فئة الفلاحين ابان الثورة على النظام الملكى فى خمسينات القرن العشرين .
و تجلت الحاجة إلى هذا الدور المزدوج للدولة فى جمهورية الصين الشعبية بعد استعادتها مقاطعة هونج كونج التى كانت انجلترا تحتلها - تحت مسمى الاستعارة - فى تسعينات القرن العشرين و هنا ظهر لأول مرة فى التاريخ مصطلح جديد تماماً و هو دولة واحدة و نظامين نظام اشتراكى خالص تمثله الصين الشعبية بما لها من ثقل كإحدى الدول الشيوعية الرئيسية فى العالم ، و نظام رأسمالى صرف بما تمثله مدينة هونج كونج من تقاطع ثقافى و اجتماعى و اقتصادى مع الدولة الأم التى استعادت مدينتها التى كانت لسنوات تتربى فى كنف النظام الرأسمالى الانجليزى و التى تحولت إلى قبلة رأسمالية فى جنوب شرق آسيا المفعمة بالتيارات الاشتراكية و الرأسمالية معاً و بخاصة فى مجاورة عملاق  اقتصادى راسمالى آخر هو اليابان ، و هكذا وجدت الدولة الصينية نفسها مطالبة برعاية الرأسمالية و الشيوعية معاً و كلتاهما تعبران عن تيارين اقتصاديين مختلفين تمام الاختلاف ؟
و لكن هل كانت الصين على موعد مع النظام الدولى الجديد أم على موعد مع تغيير فى مفهوم الدولة ، لنقفز إلى النتائج نجد أن جمهورية الصين الشعبية أصبحت الآن قبلة رأسمالية - فى الجانب الاقتصادى - و عملاق رأسمالى بكل ما تحمله الكلمة من معانى  برغم سيادة النظام الشيوعى - و الذى خفت فيه حدة التوتر الثورى السابقة و أصبحت الدولة تتجه إلى رعاية المشروعات الاقتصادية الضخمة بنفس القدر من الاهتمام للمشروعات الصغيرة و المتوسطة و المتناهية الصغر التى ينشغل بها اساساً من يمكن اعتبارهم من المهمشين فى السابق و الذين تحولوا إلى أصحاب مشروعات اقتصادية صغيرة الحجم و لكنها فى المجموع ضخمة جداً فنشأ - فى اعتقادى طور جديد من الاشتراكية التى لا تتقاسم نتاج العمل و لكنها تتقاسم رؤوس الأموال و تتقاسم ملكية مشروعات اقتصادية تدار بشكل رأسمالى بحت
و تجلى دور الدولة فى هذا المثال كمنظم - بعكس السائد فى النظم الاشتراكية - و ليس كمالك للمشروع الاقتصادى حيث كفلت الدولة توجيه النشاط الاقتصادى الجمعى نحو انتاج منظم كثيف العمالة لقطع صغيرة بل أحياناً متناهية الصغر ( مثل الألكترونيات بمختلف أشكالها ) و متخصص بل أدعى أنه شديد التخصص ، من أجل تجميع المنتج النهائى الذى غير من مفهوم المشروع الاقتصادى القائم على تركيز الصناعة فى مكان واحد كالمصنع أو الورشه ليشمل كل المصانع أو الورش أو المعامل ليتم فى النهاية تجميع كل القطع الفسيفسائية فى صورة منتج واحد كبير كثيف التقنية كثيف العمالة رخيص الثمن
و يكفى أن تستمع إلى من يسافرون بصفة دورية إلى الصين لاستيراد كل المنتجات الأصلية و المقلدة بنفس الشكل و أحياناً الكفاءة و بأسعار شديدة التباين اعتماداً على التنوع الخرافى فى القطع الصغيرة المكونة للمنتجات النهائية من حيث السعر و الكفائة و الجودة ، يكفى أن تستمع إليهم عن هذه المجمعات التجارية الضخمة التى تتخصص فى عرض نوع واحد فقط من المنتجات كأجهزة الجوال مثلاً أو كأجهزة الحواسب أو الماكينات الصناعية ، و التى نجحت الدولة فى تخصيص مجمعات استرشادية تتولى القيام بالترويج و التنسيق بين المنتجين فى منتظمات اقتصادية تعتمد على اشتراك الكثير من الورش و المصانع فى كيانات كبيرة تحقيقاً  للمنافسة بينها و بين الشركات العابرة للقارات و التى نشأت بفضل رعاية الدول الرأسمالية للمشروعات الاقتصادية الأمر الذى أدى إلى تفكيك بعض المشروعات لمصانعها و مشروعاتها من الدول الأم و نقلها إلى الصين تحقيقاً لمعادلة غريبة قد تذهلنا إذا تذكرنا الحرب الباردة و المنافسة الشرسة و المحمومة بين الشرق الاشتراكى و الغرب الرأسمالى
و فى المقابل حين تجاوزت الأزمات الاقتصادية الحدود القصوى لتوزيع الثروة بين الفقراء و الأغنياء فى دول أوروبا  فتلاحظ زيادة نسب نجاح الأحزاب الاشتراكية فى فرنسا و ألمانيا  بل و فى اسرائيل التى طالما تغنت برأسماليتها و خلاصها من معضلات الفقر و الأزمة التى نتجت عن الحروب المتواصلة مع العرب - و بخاصة بعد الحرب الأهم مع مصر - و فى الكثير من الدول الأوروبية الأخرى بل و فى انجلترا حيث أعرق اقتصاد رأسمالى فى العالم أيضاً حيث تنبهت الشعوب إلى المخاطر الاقتصادية من النظام الرأسمالى المفتوح بدون  ضوابط ، فتعاملت مع الأزمات بالضغط على الحكومات المتعاقبة لزيادة مخصصات الدفاع الاجتماعى و الاقتصادى ، و برغم أن حزب العمال برئاسة تونى بلير قد سقط فى الانتخابات الأخيرة برغم زعامته أوروبا فى معتقد الطريق الثالث و سقط تطبيق الفكرة بشكله الأولى فى الولايات المتحدة بسقوط بوش الابن إلا أن الغريب أن ما أدى إلى نجاح باراك أوباما استند إلى انحياز أولى للفقراء و المهمشين اقتصادياً و اجتماعياً
دون المساس بالحرية الاقتصادية التى تعيشها المشروعات الاقتصادية العملاقة فى أمريكا و لا أدل على ذلك إلا الأرقام الخرافية التى وافقت عليها الحكومة الأمريكية لاستعادة الاقتصاد الأمريكى لعافيته ، مما يدل على أن سقوط بوش لم يكن بسبب ايديولوجية الطريق الثالث و لم يكن كذلك بالنسبة لتونى بلير و إنما كان بسبب التكاليف الباهظة لسلسلة الحروب التى لم تنته حتى تاريخه فى مناطق مختلفة من العالم أثمرت أعباء رهيبة على دافعى الضرائب على ضفتى الأطلنطى
بل ان أغلب الدول العربية الغنية  فى الخليج العربى تمارس الدور نفسه  بشكل أو بآخر لحماية الطبقات الأقل قدرة تنافسية أو الأقل قدرة اقتصادية ، فتجد أنه باستمرار رعاية لأصحاب رؤوس الأموال جنباً إلى جنب مع رعاية من هم ليسوا من أصحاب الأعمال مواطنى هذه الدول فلا يغيب شهر دون أن تستمع إلى مكرمة ملكية أو أميرية لبعض ذوى الحاجات أو لسداد دين بل أحيانا تقف الدولة حائلاً دون سقوط بعض المشروعاات الاقتصادية فى دائرة الإفلاس ، بل إن بعض الدول العربية قامت بضربات استباقية على شاكلة النموذج الكينزى الذى ينادى بقيام الدولة فى وقت الأزمة بزيادة النفقات العامة حتى تتمكن النخب من أصحاب القرار من الوصول إلى نقطة الاستقرار و اليقين أن هناك دائماً دولة تحمى المشروع الاقتصادى و تقيل صاحبه أو تابعه من العثرات الاقتصادية ( أنظر إلى النماذج التعمير فى السعودية فى مشروعات مدينة الملك عبد الله على البحر الأحمر و الإماراتية فى مدينة دبى و أبو ظبى و دولة قطر فى الخليج الغربى و مشروعات سلطنة عمان السياحية و البحرين فى قطاعات النقل و السياحة ) فهذه المشروعات و إن كانت تهدف إلى التعمير فى الأساس إلا أنها موكولة إلى شركات وطنية مهمة تستدعى الكثير من رأس المال ، و الكثير من العمل و تتولاها الدولة بالرعاية و المساعدة .
أما فى النموذج المصرى فنجد الأمر آثاراً تتداخل فى ظواهر فآثار النظام الاشتراكى لم تزل قائمة و ملحوظة من رعاية الطبقات العمالية و الأقل قدرة على الانفاق أو الأقل مقدرة اقتصادياً و تتمثل فى التوزيعات العينية المدعومة من الدولة للمنتجات الغذائية و بعض السلع الأخرى مراعاة للفارق الضخم بين الأجور و الأسعار ، و محاولات حثيثة لبث القيم الرأسمالية بعد قرون من المد الاشتراكى و الاعتماد على الدولة ، و المحاولات العديدة لتنشيط القطاع الخاص بخاصة فى المشروعات الصغيرة و المتناهية الصغر كما تقف الدولة أيضاً بجانب المشروعات الاقتصادية الكبيرة فى المحاولات الحثيثة لفتح أسواق جديدة من خلال مجالس الأعمال المشتركة مع دول افريقيا و اوروبا و آسيا و الدعم المخصص للطاقة و السعى إلى تثبيت الأسعار ضماناً للمنافسة فى السوق العالمى .
و الظواهر الرأسمالية لها نصيب هى الأخرى و هو كبير أيضاً - و إن كان بعضها غير محمود العواقب على المدى البعيد- مثل ظهور الاحتكارات الكبيرة لإنتاج بعض السلع و الصناعات و سيادة الفائدة المنخفضة على الودائع و ظهور طبقات جديدة دخلت فى مظلة المهمشين اقتصادياً ، و هو ما يجعل دور الدولة فى مصر تحديداً أقل قدرة على الحماية للطبقات الأقل تنافسية و مقدرة اقتصادية برغم الفوائض الضخمة نظراً لكون الاقتصاد المصرى تاريخياً و واقعياً اقتصاد قوى لكونه من أكبر الأسواق فى الشرق الأوسط و كونه محطة مهمة للنقل و الطاقة من مصادر متعددة إلى جانب الأهمية الثقافية و القدرات البشرية الهائلة  إضافة إلى التنوع فى مصادر المواد الخام ، كل ذلك يجعل دور الدولة فى مصر يحتاج إلى قدر أكبر من العمل و الاهتمام ، و إن كانت المرحلة التى تمر بها مصر على قدر كبير من التأثير فى هذا الدور سواء من الناحية السياسية أو الاجتماعية مما قد يشفع لبعض التراخى فى دور الدولة .

الخلاصة
- أن المفهوم السابق و الذى ساد فى القرن الفائت عن الدولة الاشتراكية و الرأسمالية قد انتهى بالشكل المطلق الذى كان عليه ، و أن الدولة التقليدية التى استقرت سلطاتها فى النظامين لم تعد محددة على سبيل الفصل و انما تداخلت الواجبات بين النظامين
- أن دور الدولة أصبح أكبر من ذى قبل فى الحاجة إلى رعاية طرفين هما طرفى المعادلة الاقتصادية رأس المال و المجتمع على حد السواء و على نفس القدر من الأهمية
- أن دور الدولة يحتاج إلى كلا المفهومين فى الشكل الجديد الحمائية الجديدة لرأس المال و المشروع الاقتصادى بالإضافة إلى حماية الطبقات الأقل قدرة اقتصادياً و التى كانت محط الاهتمام فى ظل النظم الاشتراكية
- أن المشرع فى وضع أسس القوانين يحتاج إلى منطلقات دستورية  مختلفة عن المبادئ الدستورية التى وضعت فى أزمنة الحرب الباردة و الفصل بين الاشتراكى و بين الرأسمالى ، مما يستدعى الكثير من العمل لتفصيل قوانين و تشريعات ستختلف بالقطع عن السابق بشكل يكاد يكون جذرياً

اسامه المناخلى
المحامى


 
 

 

الانتقال السريع           

 

  الموجودون الآن ...
  عدد الزوار 4669 / عدد الاعضاء 63