محاكمة سقراط(1)

 

أخذ كأس السم وشربها بكل شجاعه..

 

 

القضاه الخمسمائة اتخذوا أماكنهم على المقاعد الخشبية المغطاة بحصير الخيزران.

 

واستوى الرئيس على منصة عالية يحيط به كاتب المحكمة ومباشرها ورماة السهم الذين يقومون بوظيفة الشرطة. وثمة صندوق على المنصة سوف يضع فيه القضاة الاوراق التى تحمل إدانتهم للمتهم أو تبرئتهم له .

 

الجلسة عامة , والجمهور المؤلف بكامله من الرجال كبير العدد , وكانت الوقت مبكراً والصباح جميلاً, وقد أرتفع غناء الصراصير , فاطمأن القضاه لأن الطقس السىء ما كان ليسمح باستمرار المحاكمة التى تعقد فى الهواء المطلق.

 

إنه لأمر غريب فى الواقع , ولكن المكان والزمان يفسران هذه الغرابة بالنسبة لمحاكمنا الحديثة , فنحن فى آثينا وفى صيحة ربيعيه من سنة 399 قبل الميلاد.

 

ومن الصعب أن يتصور المرء كيف كانت آثينا قبل أربعه وعشرين قرناً. يقول أحد المعاصرين :"إنها مدينة مؤلفة من عشرة الأف منزل " وهو رقم محترم يعنى أن المدينة كانت تضم بين ثلاثمائة ألف وأربعمائة ألف نسمة . ويمكننا أن نتصورها مكومة بعضها فوق بعض , بشوارعها الضيقة وبيوتها المتلاصقة المبنية من الخشب أو القرميد المطلى بالكلس الأبيض. ومن فوقها تسطع ببهاء شمس البحر الابيض المتوسط.

 

وكانت أثينا قد أبدعت نظاماً سياسياً فريداً هو الديمقراطية , فإن جميع الأثينين الذكور الذين أتموا الخدمة العسكرية , هم مواطنون ويشاركون مباشرة فى إدارة المدينة-الدولة

 

ولا يستثنى من ذلك سوء النساء والغرباء والعبيد.

 

ومع ذلك فإن آثينا وهى أكبر "المدن-الدول"اليونانية كانت تمر فى تلك السنة بمرحلة مأسوية من تاريخها, فبعد حرب رهيبة مع منافستها القديمة اسبارطة استمرت سبعه وعشرين عاماً, فخرجت آثينا من الحرب منهزمة , وعانت وصمة الاحتلال, وفرض عليها العدو نظاماً ديكتاتورياً هو نظام "الطغاة الثلاثين" الذى أقيم برئاسة "الأثينى كريتياس" والذى تحررت منه منذ فترة قصيرة.

 

وصحيح أن ذلك الكابوس قد انقشع وتلك المعاناه قد انتهت , ولكن الأزمنة المضطربة لابد من أن تخلف كثيراً من الأحقاد , إنه وقت تصفية الحسابات , ولكن الذى يطمئن هو عودة المؤسسات الديمقراطية إلى العمل, وبينها القضاء. أما القضاه فهم متطوعون يتم اختيارهم بطريقة القرعه, وبهذه الطريقة يجرى اختيار ستة الأف قاضى كل سنة يوزعون على اثنتى عشرة محكمة , لكل منها خمسمائة قاض.

 

وفى ذلك الصباح أخذ القضاه الخمسمئة أماكنهم , لمحاكمة شيخ جليل جلس على عتبة المنصة, وكان المتهم المسن ذا لحية بيضاء , حافى القدمين , يغطى جسمه بوشاح من الصوف الرخيص, إنه من النحات سوفرونيسك والقابلة قيلاريت, ويدعى سقراط.

 

أما التهمة التى سيحاكم بشأنها فقد وجهها إليه المواطن "ميلتوس"الذى يتهمه بأنه لا يؤمن بآلهة المدينة, وبأنه قد أفسد شبابها! أما العقوبة التى طلبها له فهى الإعدام.

 

كان سقراط حينذاك فى السبعين من عمره , وهو لايتمتع بشىء من الوسامة أو الأناقة , وبينما كان الأثنيون يرتدون الثياب البيضاء المفصلة من الجوخ الثمين, كان يكتفى بوشاح من الصوف الرخيص انه ابن النحات سوفرونيك والقابله فيلاريت , ويدعى سقراط.

 

ام التهمة التى سيحاكم بشأنها فقد وجهها اليه المواطن "ميليتوس" الذى تتهمه بانه لا يؤمن بالهه المدينة , بأنه قد افسد شبابها ! اما العقوبة التى طلبها له فهى الاعدام .

 

كان سقراط حينذاك فى السبعين من عمره , وهو لايتمتع بشئ من الوسامة أو الأناقه

 

, وبينما كان الأثينيون يرتدون الثياب البيضاء المفصله من الجوخ الثمين , وكان يكتفى بوشاح من الصوف الرخيص ويسير حافى القدمين فى الصيف والشتاء , كان هذا الشيخ الذى يمثل صورة المتشرد والحكيم فى آن واحد , قد ولد فى أثينا سنة 469ق.م وكان ابوه نحاتاً يصنع التماثيل , إلا أن ابنه لم يرث عنه حرفته , خلافا للتقاليد السائدة, كما انه لم يمارس حرفة اخرى , مكتفياً بالتجوال فى انحائ المدينه ومحاورة المواطنين سائلاً اياهم عن مفاهيمهم الاخلاقيه والسياسية ومناقشاً اياهم فى هذه المفاهيم .

 

خمسون سنة قضاها سقراط وهو يعترض الناس ولا سيماً الشبان منهم , ويجادلهم , فى الاسواق والحمامات العامة أو في ظلال أشجار الزيتون , وكانت اثينا فى تلك الأيام تحفل بالفلاسفة والخطباء والسياسيين الذين لا يفتأون يبحثون عن الطلاب والمريدين , وكان يطلق على اساتذة الفلسفة "السفسطائين " , وكانوا يتقاضون اجراص مرتفعا من الطلاب , فى حين كان سقراط يرفض اى اجر على الدروس التى يلقيها على الشبان . وكانت الفلسفة بالنسبة اليه ممارسة عملية وعفويه وطريقة حياة .

 

وعلى الرغم من انه كان زوجا لامرأة شرسة ومشاكسة تدعى"كزانتيب" وابا لثلاثة اولاد فان صلته بافراد مجتمعه كانت اوثق من صلته بافراد اسرته , فهو منصرف بكليته الى المهمه التى نذر لها نفسه , وهى مناقشة الشبان فى شؤون العداله والاخلاق . وكان بعض هؤلاء لا يفهمون ارائه , وعندما لايفهم المرء شيئا يتحداه او يسخر منه . وهذا ما جعل اريستوفان يتخذ من سقرا موضوعا لمسرحيه ساخرة بعنوان "السحاب" يبدو فيها الفيلسوف فى سلة معلقة فى الهواء وهو يخاطب الغيوم ويستوحيها فى ايجاد حلول صالحة لقضايا بلاده .

 

وقد اعترف سقراط بانه انما يعمل مدفوعا من قبل شيطانه , ولكنه لم يعن ما نفهمه نحن من هذه الكلمة بل كان يعنى نوعا من الالهام الداخلى يمكن تسميته بالضمير وكان ضميره يملى عليه ان يختار بنفسه ارائه الدينية والاخلاقيه لا ان يأخذها تلقائيا عن قومه وذلك هو الامر الذى لم يغفر له ومن اجله يتهم بافساد الشييبه  وعدم الايمان بالهه اثينا

 

ولم يكن فى اثينا نيابة عامه توجه الاتهام بل كان فى وسع اى مواطن ان يوجه التهمه التى يريد الى اى مواطن اخر وعلى المحكمه ان تصغى اليه والى المتهم ثم تصدر حكمها بطريقة الاقتراع السرى وكان الذين وجهوا الاتهام الى سقراط ثلاثة مواطنين هم ليكون انيتوس ميليتوس , الاول منهم ديمقراطى متسلط واحد ممثلى النظام الجديد والثانى تاجر جلود تخلى عن ابنه ليلتحق بالفيلسوف والثالث شاعر ناشئ اتخذ من الشعر والخطابة حرفة له وعلى الرغم من ان سقراط لم يكن سياسيا بالمعنى المفهوم من هذه الكلمه فان الديمقراطيين كانوا يكرهونه وكان بين تلاميذه عدد من الارستقراطيين بينهم كريتياس زعيم النظام الديكتاتورى الاسبارطى الذى اطيح به أثر ثورة شعبيه ولم يكن الفيلسوف ليجد غضاضه فى مصادقه هؤلاء الارستقراطيين وتبادل الرأى معهم حول العداله والفضيله والمعرفه فهو لا يؤمن بالاحزاب وانما يؤمن بالافراد وتلك جريمة لا تغتفر فى عهود الاضطراب السياسى

 

ان هذا الساخر الاشعث المهلهل الثياب , الذى لا عمل له سوى الانتقال من مكان الى اخر لاعتراض الشبان والطعن فى معتقداتهم الأخلاقية والدينية والنيل من مواقفهم الفكرية والسياسية قد اثار عليه الكتيرين من رجال المدينة ومنهم الاباء الذين انكرهم ابناؤهم والسياسيون الذين سفه ارائهم ومواقفهم والسفسطائيون الذين طالما هزأ بهم وسخر من تعاليمهم فجاؤوا جميعا للانتقام منه فى هذه المحاكمه الفريده

 

وبعدما وجه المتهمون الى الشيخ الجليل كل ما لديهم من تهم تدور حول افساد الشبيبه وتلقينها افكارا جديده تتناقض مع تراث اثينا الدينى والاخلاقى جاء دور المتهم ليدافع عن نفسه وكان على كل متهم ان يقوم بهذه المهمه بنفسه ولا يحق له ان ينيب عنه محاميا اكثر خبره منه بشئون الدفاع واذا كان المتهم عاجزا عن التعبير فمن حقه ان يكلف احد المحامين بان يعد له دفاعا مناسبا ثم يعمد الى حفظه غيبا وترديده امام المحكمه

 

وقد تطوع ليزياس وهو اشهر المحامين فى اثينا لكتابة دفاع عن سقرا باعتباره اكثر معرفه منه بقوانين والاسلوب الذى يؤثر فى القضاء ولكن الفيلسوف الشيخ رفض قبوله وعاده اليه قائلا " ان خطابك جميل جدا يا ليزياس ولكنه لا يشبهنى . هل تعقتد بان معطفا وحذاءا جميلا يليقان بى ؟! "

 

وبدأ سقراط دفاعه , وقلب كتاب المحكمة الساعه المائية التى تقيس الوقت الذى يجب أن يستغرقه هذا الدفاع إذ إن من حق المتهم أن يستغرق دفاعه من الوقت بقدر ما استغرقته خطابات الاتهام.

 

سقراط وسلاح ....الهجوم

 

وخلافاً لما يتخيل المرء لم يكن سقراط خطيباً بل كان رجل حوار وجدل ونقاش.

 

وهذا أمر لا يفيد فى المحكمة وإثارة عاطفة القضاه , ولهذا  دهش هؤلاء عندما سمعوه يقول :

 

-      إنه لحظ سعيد للشباب , إذا كنت المفسد الوحيد لهم وكان جميع الاثنيين مصلحين لهم.

 

-  ولم يدافع سقراط عن نفسه بل عمد إلى الهجوم , فذكر القضاه  بأن عرافه معبد دلفس كان قد أعلن سقراط هو أعلم الناس , وتساءل عما عناه العَراف بذلك, وقال:

 

-  لقد قمت بالتحقيق , فاستجوبت جميع الاشخاص الذين يسمونهم علماء , وتأكدت من أنهم لا يعلمون شيئاً .

 

وأوضح الفيلسوف ما استخلصه من ذلك. فقال :

 

-  لا شك فى أنى أعلم الناس , لآن الأخرين يعتقدون بأنهم يعلمون بعض الأشياء فى حين أنهم لا يعلمون شيئاً , أما أنا فإنى أعلم بأنى لا أعلم أى شىء.

 

ويضحك القضاه ويحتج الرئيس على هذه الضجة , ويتابع سقراط حديثه فيتكلم عن"شيطانه" أو بالأحرى عن عبقريته , ويعلن حقه فى إطاعه ذلك الصوت الداخلى , وإتباع نصائحه ويصرح بصوت عالٍ أنه إذا برئت ساحته , فيتابع كما فعل فى الماضى تدريس فلسفته. ويحذر القضاه من الحكم عليه بالموت قائلاً :

 

-  إذا قتلتمونى أيها الأثينيون فلن تجدوا رجلاً مثلى . إن أبولون قد وضعنى هنا لأبقى على هذه المدينة , فى حالة اليقظة فإذا ما أعدمت فإن الله سيغرقكم فى نوم أبدى.

 

وأنهى سقراط دفاعه دون أن يسترحم القضاة كما جرت العادة لدى المتهمين الأخرين الذين يحيطون أنفسهم أثناء المحاكمة بأولادهم لإثارة العطف واستدار الفقة , ولم يخف القضاه دهشتهم فى موقف التحدى الذى اتخذوه وعدم المبالاة الذى بدا عليه, واتجهوا شطر صندوقه الاقتراع ليضعوا أصواتهم فيها , وكان عليهم هذه المرة أن يحددوا موقفهم من الاتهام الموجه اليه , فيعلنوا هل هو مذنب أم غير مذنب , وكان كل منهم مزوداً بحلقتين من المعدن واحدة ملأى تعنى الإدانة والثانية مجوفة تعنى البراءة, وعليه أن يحملهما معاً ثم يضع فى الصندوقة واحدة منهما بطريقة معينة تصون سرية الاقتراع .

 

وبعدما عاد القضاة إلى أماكنهم , أحصى كاتب المحكمة عدد المقترعين بالإدانة فتبين أن عددهم مائتان وثلاثون فى حين أن عدد المقترعين بالبراءة كان مئتين وعشرين , أى أن الإدانة قد تمت بأكثرية ضئيلة , ولكنها أكثرية على كل حال.

 

وعاد سقراط إلى الكلام , ولم يصدق القضاه ما سمعوه. لقد كان من حقه أن يناشدهم تخفيف الحكم عليه فى الاقتراع الثانى الذى سيحدد نوع العقاب ويقترح العقاب الذى يتصوره, ولكنه قال إنه يستحق المكافأة لأنه بدلا من أن يبذل نشاطه فى الحصول على منصب رفيع , قضى حياته وهو يقدم الخدمة للناس بإقناع كل فرد منهم بألا يفكر ويهتم بالفوائد العملية أشد من تفكيره واهتمامه بفوائده العقلية وسعادتة الأخلاقيه ثم تسائل عن المكافأة اللائقة بإنسان فقير ومحسن للناس.

 

ورأى أنه لايقل عن المكافأة التى تقدمها الدولة للفائزين فى السباقات الرياضية , بإعالتهم على حساب الدولة, فهؤلاء يقدمون للناس ما هو شبيه بالنجاح ,  أما  هو فيقدم لهم حقيقته الواقعيه .

 

وفسر سقراط لماذا اقترح هذا العقاب –المكافأة , فى حين أن متهمه ميليتوس اقترح إنزال عقوبة الموت به. فقال إنه لم يكن من المعقول طبعاً أن يطلب إنزال الموت به, أما السجن فلا يريده لأنه سيمضى أيامه فيه خاضعاً لأنه لا يمتلك المال اللازم لذلك (أعلن أصدقاؤه وتلاميذه وفى مقدمتهم أفلاطون أثناء الجلسة استعدادهم لدفع الغرامة فى حال تقريرها) يبقى أن يقترح النفى ومن المرجح جداً أن يوافق القضاه على ذلك, ولكنه يعرف حق المعرفه أنه أينما حل فسيلتف الشباب من حوله وسيصغون إلى أحاديثه كما يفعلون فى أثينا , فينفى من جديد ويمضى ما تبقى له من أجل مطروداً من كل مدينة يدخلها , ولو قيل له لماذا لا تقضى بقية حياتك فى المنفى منصرفاً إلى شؤونك الخاصة , لأجاب أنه لا يستطيع ذلك لأن الصوت الذى يهتف فى داخله يدفعه إلى مسلكه ذلك دفعاً .

 

وتعالت أصوات السخط والاستنكار لهذا التحدى والاستهزاء , فقد كان فى وسع الفيلسوف, كسب الأقلية الضئيلة التى صدرت الادانه بموجبها إلى جانبه , لو تصرف بشىء من اللباقة والدهاء, ولكنه أبى الى الاستمرار فى مواجهه قضاته بطريقته الصريحة والصارمة , فاتجه هؤلاء إلى صندوق الاقتراع بثيابهم البيضاء, وكانت نتيجة الاقتراع هذه المرة الحكم عليه بالموت: بأكثرية بلغت ثلاثمئة وستين صوتاً .

 

وحينئذ وقف سقراط وخاطب القضاه بقوله :

 

-  لاشك فى أنكم تعتقدون بأنكم قد أدنتمونى لأنى لم أقم الأدلة والبراهين التى كان فى وسعى تقديمها لاثبات براءتى. ولكن هذا الاعتقاد بعيداً عن الحقيقة , فليس الافتقار الى البراهين هو الذى أدى إلى إدانتى. وانما الافتقار الى السفاهة والوقاحة والسلاطة..بالإضافة الى رفضى مخاطبتكم بالأسلوب الذى يرضيكم , ويشيع فى نفوسكم الغبطة, لقد كنتم تريدون لى أن أبكى وأعول وأفعل كل ما اعتدتم سماعه من الناس, وما أراه غير جدير بى. إنى لم أعتقد البته بأنه يجب علىَ أن أخضع للحقارة والمذلة,لا لشىء إلا لأن الموت محدق بى,وأنا أفضل الموت نتيجة للنهج الذى سلكته فى دفاعى , على الحياة نتيجة لنوع آخر من الدفاع , ففى قاعه المحكمة كما فى الحرب , لا ينبغى للمرء أن يستعمل حصافته لينجو من الموت بإلقاء سلاحه والارتماء على أقدام مطارديه , كما أن هناك فى كل نوع من أنواع الخطر , العديد من الحيل للنجاة من الموت , إذا كان المرء ضآلة الضمير بحيث يتمسك بأى شىء , لكنى أعتقد بأن المعضلة لا تكمن فى النجاة من الموت , وإنما المعضلة الحقيقية هى النجاة من فعل الشر والشر سريع الخطى رشيقها . وقد تغلبت علىَ أنا الشيخ الطاعن في السن والبطيء الخطى , المعضلة الاولى والأبطأ خطى من الثانية , وتغلبت على المدعوين وعلىَ المعضلة الثانية الأكثر سرعة ورشاقة وأعنى بها الظلم والشر. وعندما أغادر هذه القاعه فسأذهب وقد أداننى الموت . أما هؤلاء فسيغادرونها وقد أدانتهم الحقيقة , حقيقة الشر والضلال . وهم سيقتلون ما أدينوا به. كما أتقبل أنا ما أدنتمونى به , واعتقد بأن النتيجة جاءت عادلة بما فيه الكفاية .

 

سأقول لكم أيها الجلادون, يا جلادى , إنه حالما يطوينى الردى , فإن عقوبة أشد ستنزل بكم , لقد تسببتم فى قتلى اعتقاداً منكم بأنكم ستنجون من تعرض سلوككم للنقد , ولكنى أقول لكم إن النتيجة ستكون عكس ما تريدون وتشتهون. فناقدوكم سيزدادون عدداً , هؤلاء الناقدون الذين كنت لا أفتأ أكبح من جماحهم دون أن تعرفوا أنتم بذلك , ونظراً لأن هؤلاء هم دونى سناً, فسيكونون أشد عنفاً بالنسبة لكم .أما إذا كنتم  تتوقعون أن تضعوا حداً للتعريض بسلوككم الخاطىء, بإعدام الناس , فلا شك فى أن ثمة شيئاً مغلوطاً فى تفكيركم. لأن الطريق الأصح لبلوغ غايتكم , ليست فى إقفال أفواه الناس وإخراس ألسنتهم , بل فى سعيكم إلى بلوغ درجة أسمى من الخير والصلاح , هذه رسالتى اليكم يا من اقترعتم بإدانتى .

 

وكانت الطريقة التى اختيرت لموته هى من الارحم بين طرق الاعدام المطبقة فى أثينا , وهى تقضى بأن تقدم له كأس من السم فيشربه, كأنه انتحار اجبارى. ولكن انقضى شهر قبل أن ينفذ الحكم , وذلك لأسباب دينية , ففى هذا الشهر من شهور الربيع تذهب بعثه دينية الى جزيرة دلبوس , ومن المحرم تنفيذ اى حكم بالاعدام قبل عودتها.

 

وفى فترة الانتظار هذه زاره كريتون أخلص تلاميذه له , واقترح عليه أن يعمل على تهريبه , وقد أعد الخطة ووسائل تنفيذها . ولكن سقراط أجاب بالرفض لأن عليه احترام القوانين , حتى وان بدت ظالمة , ولو قام بذلك لطاردته أثينا وسألته بأى حق يدمر قوانينها , ولقالت له القوانين : "نحن إذا حاولنا إعدامك لاعتقادنا بأن العدل أن نقوم بذلك , فهل ستقوم أنت ببذل أقصى ما لديك من جهد لتدمير بلادك وقوانينها رداً على فعلنا ذلك ؟ وهل ستزعم وأنت المتعبد الصادق للصلاح , بأن لك ما يبرر فعلتك تلك , وهل من الحكمة ما يجعلك تنسى أن بلادك , إذا ما قورنت بأبيك وأمك وبقية أسلافك , لهى أثمن منهم بكثير وأعمق منهم احتراماً وأسمى منهم قداسة ؟ ألا تدرك أن واجبك يقضى عليك باحترام وتهدئة غضب بلادك , أكثر من احترامك لغضب أبيك وتهدئته . إن العنف إثم إزاء والديك , غير أنه يكون إثماً أبلغ وأفدح إذا اقترفته ضد بلادك !. "

 

اخرجوا ....زوجتى

 

وعادت البعثة المقدسة من دلبوس , وفى صبيحة اليوم التالى توافد تلامذة سقراط الى السجن , وبينهم فيدون وايبيجين وأبولودور وكريتون وكريتوبول وهيرموجين وكتيبس ومينيكسين وسيمياس واقليدس. وتخلف أفلاطون عن المجىء لمرضه وقيل إنه غادر أثينا لئلا يتعرض لمصير مماثل , ولما أحاطوا به فك السجان قيود الفيلسوف, وجاءت زوجته كزانتيب وهى تنتحب , فرجاهم إخراجها من الزنزانة لأنه لا يستطيع تحمل صراخها, ثم اتجه اليهم يحاورهم عن الفن والموسيقى والموت والنفس , وحين لاحظ الجلاد أن انفعاله يتاعظم أثناء المناقشة, دنا منه قائلاً :

 

-      لا تتحرك كثيراً وإلا فإن السم لن يؤثر فيك سريعاً ..

 

فبدا عليه الامتعاض وقال له :

 

-      وما عليك إذن إلا أن تضاعف الكمية !

 

وعاد الى مناقشته الحاره , وكان الحاضرون يحدقون به فى دهش واعجاب, وقد بدا التناقض صارخاً بين القلق واليأس المسيطرين عليهم والهدوء التام الذى بدا عليه ولما انتهى الجدل بين المعلم وتلامذته دخل الى الحمام ليغتسل وهو يقول :

 

-      أريد أن أجنب النساء غسل جثة !

 

وحين خرج من الحمام قدم اليه الجلاد كأس السم قائلاً :

 

-  إنى أعلم أن الامر معك لن يكون كما هو مع الاخرين . فهؤلاء يغضبون علىَ ويلعنوننى حين أقدم السم لهم , أما أنت , وأنت الأكثر حكمة بيننا , فسوف تعرف كيف تتقبل ما لا بد منه !

 

فأجاب سقراط :

 

-      حييت يا هذا ... ماذا يجب أن أفعل ؟

 

-  لا شىء سوى أن تقوم ببضع خطوات بعد شرب السم , حتى تشعر بثقل فى ساقيك , وعليك أن تستلقى حتى يفعل السم فعله .

 

وأخذ سقراط الكأس وشرب كل ما فيها , فارتفع صراخ الحاضرين ونحيبهم , فغضب ورجاهم أن يكفوا عن ذلك , وذكرهم بأنه إنما أبعد زوجته كى لا يسمع نحيبها , ولما شعر بثقل فى ساقيه استلقى على ظهره. فدنا منه الجلاد وضغط على قدميه وسأله :

 

-      هل تحس شيئاً ؟

 

-       كلا ...

 

ففحص الجلاد ساقيه ثم قال :

 

-      لقد بدأت أعضاؤه تبترد , ومتى وصل البرد إلى قلبه مات .

 

ونادى سقراط صديقه كريتون وهمس فى أذنه :

 

-      نحن ميدنون بديك لاسكولاب , فقدمه له بلا نقاش !

 

فقال كريتون:

 

-      سأفعل ذلك , هل تريد شيئاً أخر ؟

 

فلم يجب سقراط , واختلج اختلاجه , لفظ معها نفسه الأخير , فأغلق له كريتون عينيه وفمه. وأخذ يفكر فى كلماته الأخيرة .

 



(1)  من كتاب أشهر المحاكمات في التاريخ , قدري قلعجي ( بيروت : شركة المطبوعات للتوزيع والنشر ) الطبعة الرابعة 1996 , ص 3 منشور بمجلة المحامين العرب العدد السادس