لم تفرد الدراسات اللسانية مبحثاً للصمت ودلالاته وربما نلتمس لها العذر لأن الدرس اللساني بات مشغولاً ببحث الملفوظ، ولأن لم تتوافر في الصمت مادة يتجسد فيها الدال يمكن ان تخضع لفرضيات ومقولات الدرس اللساني وربما يمكننا ان نعذر الدراسات السيميائية - ايضاً- من عدم اشارتها الى الصمت بوصفه علامة شأنه شأن العلامات الاخرى .
على الرغم من ان النظرية السيميائية اهتمت بالعلامات التواصلية اللسانية وغير اللسانية وان عذر هذه النظرية يكمن في سببين، هما:
1- انها حديثة التكوين ومازالت تبحث عن أركان حدود آفاقها المعرفية وان مريديها انشغلوا في تكرار مقولات الرواد ولم يتجاوزوا الامثلة التي ساقوها لتوضيح مفهوم السيميائية.
2- اهتمت السيميائية بدراسة العلامة الدال/ المدلول/ الموضوع وفي الصمت يغيب الدال ولذلك يمكن ان تواجه السيميائية اشكالية غياب احد طرفي العلامة وهذا السبب يشير الى الفراغ الذي تركه اهمال النظر الفلسفي للسيميائية حد موضوعة الصمت حداً يضعه في مجموعة العلامات اللسانية او في مجموعة العلامات غير اللسانية.
ويجدر بنا النظر الى الصمت من حيث وجوده وصفته، فالصمت فعل اذا كان يتخلل الكلام وهو قدرة عند المتكلم الذي يصمت لغاية ما فيخرج الصمت من القوة الى الفعل واذا تعين ان الصمت فعل فهو ظاهر الى الوجود يمكن ان تقع عليه الملاحظة وهو شيء قابل للوصف فنقول صمت قليلاً او طويلاً والصمت هو السكوت اوالانقطاع عن الكلام ونقع في الغلط اذا وصفنا الاشياء التي لا تنطق بأنها اشياء صامتة لأن ليس لها القدرة على الكلام فهي بكماء والابكم هو الاخرس واذا كان الصمت شيئاً متعين الوجود يوصف بأنه فعل فهذه مواصفات الدال وكما ان كل دال يتغير مدلوله بحسب السياق يتغير مدلول الصمت بحسب السياق ايضاً فيقال صمت رضا وصمت غضباً وصمت حرجاً وصمت دفعاً للشر قال رسول الله”ص“: اذا حدثك السفيه فلا تجبه فخير جواب له السكوت.
وقال الشاعر:
متاركة السفيه بلا جواب
أشدّ على السفيه من الجواب
فقد حدد السياق هنا مدلول الصمت فالصمت لا يعدو ان يكون كلاماً وحواراً جوانياً بل هو على حد تعبير كيركيجور: ماهية اصيلة للجوانية والحياة الباطنية والذين يعرفون كيف يصمتون هم وحدهم القادرون على الكلام بشكل اصيل.
وفي سياق الحديث النبوي الشريف نجد ان للصمت مدلول الترفع على الرد او الرفض في حين نجد للصمت في سياق آخر معنى الموافقة فيقال في صمت الفتاة المتقدم لخطبتها اذنها صماتها والاصل صماتها كأذنها فشبه الصمات بالاذن شرعاً ثم جعل اذناً مجازاً ثم قدم مبالغة والمعنى هو كان في الاذن.. وانما قلنا الاصل صماتها كأذنها لأنه لا يخبر عن شيء الا بما يصح ان يكون وصفاً له حقيقة او مجازاً فصماتها كأذنها.
صحيح ولا يصح ان يكون اذنها مبتدأ لأن الاذن لا يصح ان يوصف بالسكوت لأنه يكون نفياً له. هذا هو كلام الشيخ احمد بن محمد بن علي المقري الذي تفهم منه-ضمناً- ان السياق يكشف عن معنى الصمت الذي اقر في العرف الاجتماعي عند خطبة الفتاة فان صمتت الفتاة يكون صمتها اذن بموافقتها وهذا يعني ان المرجع في علامة الصمت- في هذا السياق- هو مرجع اجتماعي ولا شك ان الفعل الاجتماعي يصبح مفهوماً عندما يتم استيعابه بصورة مناسبة على مستوى المعنى وفي الوقت نفسه يتم تحليله الى حد ما تحليلاً سببياً مقبولاً ويمكن تحليل المعنى من خلال الفهم القائم على الملاحظة المباشرة للافعال والعبارات. والصمت فعل معبر عن معنى وله مواضع يحسن ان يستعمل فيها بدلاً من الافصاح بالنطق وقد شخص الجاحظ ذلك بقوله واعلم ان الصمت في موضعه ربما كان انفع من الابلاغ بالمنطق في موضعه وعند اصابة فرصته. وليس كل صمت هو علامة بل يشترط فيه ان المتلقي يدرك ان المتكلم الصامت يمكنه الرد او النطق ولم يصمت عيياً او مفحماً. قال الجاحظ في ذلك وذاك صمتك عند من يعلم انك لم تصمت عنه عياً ولا رهبة فليزيدك في الصمت رغبة ما نرى كثرة فضائح المتكلمين في غير الفرص وهذر من اطلق لسانه بغير حاجة .