من منا لايعرفُ الخليل بن أحمد الفراهيدي , هذا العبقري الفذ الذي ترك في عالم الشعر ورحاب الأدب بصمات من نور خلّدته في ذاكرة العرب, وقرنت به أوزان العريض فبقي اسمه على مر الزمن منارة فكرٍ

 

وتميزٍ وإبداع , وبقيت كفتا ميزانه حتى يومنا هذا مقياس الكسر والاستقامة, بهما توزن الكلمات وبهما يصنّف النظم وبهما أيضاً تعذب الموسيقا وتطرب الأرواح والعقول قبل أن تطرب الآذان , ولسنا بصدد الحديث عن العروض وأهميتها ونترك ذلك للمختصين والباحثين في مجال اللغة , وقواعدها والأشعار وقوافيها, وكلُّ مافي الأمر أردنا أن نقتبس من قصة الخليل بن أحمد مع ولده مدخلاً لرأي نعتقدُ أنَّ فيه بعضاً من الصحة, وباختصار شديد يقال إنَّ الخليل كان متدلياً ذات يوم ٍ في بئر وسط داره يسترق السمع لصوت المياه فيه كي يصنع من رقة هذا الصوت بعض تفعيلاته الشعرية التي كان منشغلاً بها, وبينما هو في عالمه السحري هذا خرج ولده فرأى أباه على هذه الحالة فتبادر إلى ذهنه أن الخليل يريد أن ينتحر ملقياً نفسه في البئر وخوفاً على أبيه صرخ بأعلى صوته النجدة – النجدة – وأخذ يلطم خدّه ويندبُ حظّه مذعوراً خائفاً فتجمّع الناس حوله يسألونه عما جرى – فقال انظروا إلى والدي يلقي نفسه في البئر منتحراً, فأسرع الناس إلى الوالد المسكين وبدؤوا يسحبونه من البئر مرددين هل جننت يا ابن أحمد – ماذا دهاك ؟‏

فنظر إليهم مندهشاً : عمّا تتحدثون ولِمَ أنتم هنا ! فأخبروه بفعل ولده وطلبه النجدة فضحك ونظر إلى ابنه نظرة عطفٍ وإشفاق وقال :‏

لو كنت تدري ما أقول عذرتني أو كنت تدري ما تقول عذلتك‏

لكن جهلت مقالتي فعذلتني وعلمت أنك جاهلٌ فعذرتك‏

وللأسف فإن بعض الناس يشبهون إلى حدٍ ما ابن الخليل فيأخذون الأمور بظواهرها ويطبّلون ويزمّرون لها وكأنهم اكتشفوا اكتشافاً فريداً أو كان لهم السبق في معرفة أمرٍ من الأمور ويدلون بدلوهم المعرفي لكن ليس في البئر المناسب ولا حتى قريباً منه , فيضلّون ويضلّلون ويحصدون مالا يتمنون .‏

ولو أنهم تريثوا قليلاً ونظروا بعين العقل والحكمة التي تقرأ ما بين السطور, وترى بواطن الأمور, وتميّز ما بين الجوهر والقشور, لكان الأمر مختلفاً كلَّ الاختلاف , إذ أنَّ التسرع في أي حكم ٍ أو رأي قد يدخل الإنسان في سرادق الظلمة بعيداً عن أشعة الشمس ودفء الحقيقة ومتعة الصواب , وهل يستوي نور المعرفة بحنادس الجهل؟ لا شك أنَّ الأمر يستدعي مزيداً من التأمل والتفكير والتحليل والتركيب , ومن ثم الإدلاء بما هو مصيب ومفيد , احتراماً للذات وحرصاً على عدم تعريضها لوخزات الندم ونار الخجل التي لاتبقي من كبريائها شيئاً.‏

رحمَ الله الفراهيدي , وهدى الله ولده إلى نعمة الصبر وجنة العقل التي لايدخلها إلا الذين يعشقون الأعماق ويأنفون من الوقوف على الشواطئ بين حطام الصخور ومخلفات البحار.