لقد باغتنا حكم محكمة جنح طنطا بمفهوم جديد للتعدد , تارة بالنظر إلي أشخاص المجني عليهم وتارة بالنظر إلي الأفعال التي تكون جرائم متعددة , وأيا ما كان وجه الرأي في ذلك الحكم , فقد رأيت أن ألقي الضوء علي تعدد العقوبات وتعدد الجرائم سواء كان معنويا أو ماديا حقيقيا والاستثناءات التي ترد علي قاعدة تعدد العقوبات .

تعدد العقوبات

 
مجال تعدد العقوبات : تتعدد العقوبات إذا تعددت الجرائم :
فالقانون يقرر لكل جريمة عقوبة , فإذا كانت الجريمة المرتكبة واحدة فلا محل لتعدد العقوبات , أما إذا ارتكب المتهم عددا من الجرائم , فالأصل أن يوقع عليه عدد من العقوبات بقدر عدد جرائمه , ويؤيد ذلك أنه إذا ارتكبت جريمة ثم ارتكبت أخري فلا يجوز أن تكون إحداهما سببا للإعفاء من العقوبة المقررة للأخرى . ويعني ذلك أن ضابط تعدد العقوبات هو تعدد الجرائم . ويقتضي تفصيل هذا الضابط تحديد دلالة " تعدد الجرائم " .


الدلالة القانونية لتعدد الجرائم : تعدد الجرائم هو ارتكاب شخص عددا من الجرائم دون أن يفصل بينها حكم بات . ويعني ذلك أن تعدد الجرائم يقوم علي عناصر ثلاثة : وحدة المجرم , وارتكابه عددا من الجرائم , وعدم صدور حكم بات من أجل إحداها قبل أن يقدم علي جريمته التالية .


المشكلة القانونية التي يثيرها تعدد الجرائم : المشكلة التي يثرها تعدد الجرائم تدور حول العقوبة التي توقع علي مرتكب الجرائم المتعددة : أهي عقوبة واحدة من أجل إحداها أم عقوبات متعددة بقدر عددها ؟ يرجح المنطق القانوني الحل الثاني : ذلك أن لكل جريمة عقوبتها , فإذا كانت الجريمة واحدة فلا توقع سوي عقوبتها , أما إذا تعددت الجرائم فإن عقوبتها تتعدد تبعا لذلك . ولكن هذا الحل يعيبه أن تعدد العقوبات قد يستحيل في العمل لأسباب عديده لا داعي لذكرها الآن .


أما الحل الذي يذهب إلي توقيع عقوبة واحدة فإن تطبيقه يقتضي التساؤل عن العقوبة التي يتعين اختيارها من بين العقوبات المتعددة والاكتفاء بها : لا شك في أن هذه العقوبة ينبغي أن تكون المقررة لأشد الجرائم التي ارتكبها المتهم , ذلك أن الاقتصار علي عقوبة واحدة علي الرغم من تعدد جرائمه هو تخفيف عنه , ويجب أن يقف التخفيف عند حدود معقولة , ومن ثم لا يجوز التفكير في توقيع عقوبة أخف من هذه العقوبة الأشد . ويحتج أنصار هذا الرأي في تأييده بأن ارتكاب جرائم متعاقبة دون أن يصدر حكم بات من أجل إحداها يعني تقصير السلطات العامة في ملاحقة المجرم , إذ كان الأصل أن يلاحق فور جريمته الأولي فلا يتاح له عندئذ الإقدام علي جريمة تالية . ولكن لهذا الحل عيوبه : فالاقتصار علي عقوبة الجريمة الأشد يوحي بأنه لم يوقع عقاب من أجل الجرائم الأخرى , وهذا المعني يناقض العدالة ويخل بمقتضيات الردع , ثم انه يخول ترخيصا لمرتكب جريمة جسيمة في أن يرتكب جرائم أخف مطمئنا إلي أنه لن يوقع عليه من أجلها عقاب , وليس صحيحا الاحتجاج بتقصير السلطات العامة , فقد ترتكب الجرائم المتعددة خلال فترة من الزمن قصيرة لا تسمح باتخاذ إجراءات الملاحقة من أجل إحداها .


وتفاديا لمآخذ التطرف تذهب غالبية التشريعات إلي حلول وسيطة : فمنها ما يأخذ بقاعدة توقيع الجريمة الأشد ثم يقرر تغليظها كي تكون جزاء كافيا للمسئولية عن جرائم متعددة , ومنها ما يأخذ بمذهب تعدد العقوبات , ولكنه يضع لها حدا أقصي أو يقرر جب البعض أو يري في حالات استثنائية الاكتفاء بعقوبة واحدة . وقد تبني الشارع المصري المذهب الأخير : فالأصل تعدد العقوبات إذا تعددت الجرائم ( المواد 33 , 37 , 38 من قانون العقوبات ) ولكن ثمة حدا أقصي للعقوبات الماسة بالحرية لا يجوز أن تتعداه ( المادتان 36 , 38 من قانون العقوبات ) , وتجب عقوبة الأشغال الشاقة بمقدار مدتها – إذا توافر شرط معين – العقوبات الأخرى السالبة للحرية (المادة 35 ) , ويكتفي الشارع بالعقوبة الأشد " إذا وقعت عدة جرائم لغرض واحد وكانت مرتبطة ببعضها بحيث لا تقبل التجزئة " ( المادة 32/2) .


أنواع تعدد الجرائم : إذا فهم لفظ الجريمة في معني "التكييف الإجرامي" فإن تعدد الجرائم متصور بالنسبة لفعل واحد تتعدد أوصافه الإجرامية , وهو متصور كذلك إزاء أفعال متعددة لكل منها علي حده تكييفه الإجرامي . ويطلق علي النوع الأول تعبير " التعدد المعنوي للجرائم " , ويطلق عليه كذلك تعبيرا " التعدد الحكمي والتعدد الصوري للجرائم " , أما النوع الثاني فيطلق عليه تعبير " التعدد المادي للجرائم " , ويطلق عليه كذلك تعبير " التعدد الحقيقي للجرائم " . وقد نص الشارع علي التعدد المعنوي للجرائم وبين حكمه في الفقرة الأولي من المادة 32 من قانون العقوبات , في حين حددت سائر نصوص تعدد العقوبات أحكام التعدد الحقيقي للجرائم . وثمة وضع قانوني يشتبه في الظاهر بالتعدد المعنوي , ولكنه يختلف عنه في الماهية اختلافا كبيرا , هو " تنازع النصوص الجنائية " .

 

 

 

المرجع - شرح قانون العقوبات - القسم العام . أ.د محمود نجيب حسني

حسني سالم المحامي