من القاهرة
منذ بضع سنوات دُعيتُ إلى حفل زفافِ قريبٍ، فجاء مجلسي إلى جوار أحد أقارب العريس، عرَّفني بنفسه قائلا "اسمي فلان الفلاني..ضابط شرطة"
كان الرجل في أربعينياته؛ أنيق مهذب هادئ، و لاحظت علامة الصلاة على جبهته. تبادلنا المجاملات المعتادة، ثم سألته "في أي فرع تعمل؟"
تردد للحظة ثم أجاب: "أمن الدولة"
صمتنا بعدها، و أشاح بوجهه عني لينظر إلى الحضور الآخرين، أما أنا فقد تنازع في عقلي خياران: أأواصل معه حديث المجاملات كالسابق، أم أعرب له عن رأيي في جهاز مباحث أمن الدولة؟ في النهاية، لم يمكنني إلا أن أواجهه، و سأسعى هنا بأفضل ما يمكنني إلى استرجاع الحوار الذي دار:
قلت "معذرة، تبدو لي متدينًا"
"الحمد لله"
"ألا ترى تعارضا بين تدينك و بين عملك في أمن الدولة؟"
"كيف يكون التعارض؟"
"الأشخاص الذين يعتقلهم أمن الدولة يُضربون و يُعذبون و يُغتصبون، مع أن الأديان كلها تُحَرِّم هذه الأفعال"
فبدأ ينفعل و قال: "أولا، من يُضربون يستحقون الضرب؛ ثانيا، لو أنك درست دينك كما ينبغي لعرفت أن ما نفعله في جهاز أمن الدولة متوافق كليةً مع تعاليم الإسلام"
"لكن الإسلام دين يحفظ كرامة الإنسان"
"هذا تعميم. أنا مطلع على الشريعة الإسلامية، و أعلم أحكامها جيدا"
"لا يوجد في الشريعة ما يُحلِّل تعذيب الناس"
"اسمعني حتى أُتِّم كلامي لو سمحت. الإسلام ليست له علاقة بمسائل الديمقراطية و الانتخابات. طاعة الحاكم المسلم واجبة حتى لو تَجبَّر أو كان فاسدا أو غير عادل. أتعلم كيف يعاقب الإسلام ألئك الذين يخرجون على الحاكم؟"
بقيتُ صامتًا.
فواصل باندفاع "يعاقبون بالحِرابة، و هي قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف. كل المعتقلين في أمن الدولة خرجوا على الحاكم، و بحكم الشريعة الإسلامية وجب قطع أطرافهم، إلا أننا لا نفعل هذا. ما نفعله أقل من العقوبة الإسلامية بكثير."
تواصل نقاشنا لمدة طويلة. قلت له أن الإسلام نزل أساسا ليدافع عن الحق و العدل و الحرية، و قلت أن الحِرابة لا يمكن إنفاذها إلا في الجماعات المسلحة التي تقتل الأبرياء، أو تستبيح أموالهم أو أعراضهم، و أنها لا ينبغي أن توقع على المعارضين السياسيين من المصريين.
إلا أنه ظل على إصراره على رأيه و أنهى النقاش قائلا: " هذا فهمي للإسلام، و أنا مقتنع به و لن أغيِّره، و سأكون مسؤولا عنه أمام الله"
بعد أن غادرت الحفل سألت نفسي كيف يمكن لهذا الضابط المتعلم الذكي أن يكون معتقدا بمثل هذا التفسير المغلوط للإسلام. كيف استخرج من الإسلام هذه الافكار المنحرفة! بقيت هذه الأسئلة بلا إجابات حتى قرأت بعد ذلك بأشهر ورقة علمية عنوانها "سيكولوجية الجلاد" (The Psychology of the Executioner)
فيها يحاجّ الباحث أن المعذِّبين يمكن تصنيفهم إلى مجموعتين؛ اﻷولى هم السيكوباثيون، الذين يتصرفون بعنف بلا قيود أخلاقية؛ و المجموعة الثانية - و هي الأغلبية - تتألف من رجال عاديين طبيعيين سيكولوجيا، و هم ما إن يغادروا العمل حتى يعودوا أشخاصا مستقيمين ذوي خلقٍ حسني المعشر.
لكنهم ليتمكنوا من تعذيب الناس يجب أن يتوفر شرطان: الخضوع و التبرير. الخضوع يعني أن ضابط الشرطة يوقع التعذيب إنفاذا لأوامر من رئيسه و هو يقنع نفسه أن عليه الطاعة. التبرير يحدث عندما يقنع الضابط نفسه أن التعذيب مقبول أخلاقيا و دينيا، عادة بأن يقتنع بأن ضحاياه عملاء العدوِّ أو أعداء الأمة، أو كافرون، أو مجرمون. بلا هذا التبرير لا يمكن لضابط الشرطة أن يواصل تعذيب ضحاياه لأنه عند لحظة ما لن يمكنه احتمال وخز ضميره.
تذكرت هذا عندما سمعت عن اعتقال طالبتين جامعيتين في أبريل، هما أمنية طه و سارة محمد رزق، فقد سلّمهما أمن الحرم الجامعي في جامعة كفر الشيخ بعد القبض عليهما إلى أمن الدولة لأنهما حرضتا زملائهما على الإضراب، و قد اتهمتهما النيابة بالتخطيط لقلب نظام الحكم و أمرت بحبسهما خمسة عشر يوما على ذمة التحقيق. لكن أيُعقلُ أن تسعى فتاتان لم تتجاوزا العشرين عاما لقلب نظام حسني مبارك بمجرد الحديث مع زملائهما؟
علاوة على أن الدعوة إلى الإضراب ليست جريمة في مصر الموقعة على دستات من الاتفاقيات الدولية المعترفة بالحق في الإضراب كحق أساسي للمصريين. لكن المحزن حقا هو أني علمت من زملاء الفتاتين أنهما في أمن الدولة قد ضُربتا بعنف و عُذِّبتا و أن الرجل الذي كان يضربهما و يمزق ثيابهما ضابط كبير. هذا ليس مفاجئا - فالمدونون و اليساريون و الناشطون الإسلاميون كلهم يُعتقلون و يُعذبون روتينيا في مصر و قد يقضون سنوات في السجن بلا تهمة - إلا أنه مع هذا مفزع.
كيف يمكن لضابط شرطة، هو على اﻷغلب زوجٌ و أبٌ أن يضرب بهذه الوحشية فتاة مثل بناته! كيف يمكنه أن يواجه ضميره و ينظر في أعين زوجته و أبنائه! ألم يخجل رئيسه من نفسه و هو يضرب فتاة لا يمكنها حتى أن تدافع عن نفسها!
بينما يتأهب الرئيس أوباما لرحلته إلى مصر هذا الأسبوع فإن نظام مبارك يواجه موجات غير مسبوقة من الاحتجاجات لأن الحياة فيها قد أصبحت غير محتملة للملايين من المصريين الذين ليس لديهم خيار سوى أن يخرجوا إلى الشوارع ليطالبوا بحياة تليق بالبشر. اليوم يقبع ما بين 40% و 50% من المصريين تحت خط الفقر، و قد أصبحت مصر بلدين؛ واحدة للفقراء و أخرى للأغنياء.
أما عن النظام و قد أصبح عاجزا تماما عن الإصلاح الحقيقي فهو يدفع بالشرطة لتواجه و تقمع و تعذب الناس، متجاهلا الحقيقة البسيطة الهامة في أن ضباط الشرطة هم أولا و أخيرا مواطنون مصريون يقع عليهم ما يقع على المصريين عموما، و أن أغليهم يعانون مثل معظم المصريين.
كثيرا ما أتذكر النقاش الذي دار بيني و ضابط أمن الدولة في حفل الزفاف، و أفكر أن النظام السياسي الذي يعتمد في بقاءه على القمع يعجز دوما عن أن يرى أن آلة القمع - مهما كانت - ينبغي أن يديرها أفراد هم أعضاء في المجتمع و أن آراءهم و شواغلهم عموما تتطابق مع ما لباقي الجماعة. و أنه بزيادة القمع فإن يوما سيأتي لا يمكن فيه لهؤلاء الأفراد أن يبرروا لأنفسهم الجرائم التي يرتكبونها في حق الناس، و عند هذه النقطة فإن النظام سيفقد قدرته على القمع و سيلقى المصير الذي يستحقه. أومن أننا في مصر قد اقتربنا من ذلك اليوم.
----
علاء اﻷسواني أديب مصري، و هو مؤلف روايتي "عمارة يعقوبيان" و "شيكاغو
................................
حوار الاديب علاء الاسوانى وابراهيم عيسى
http://www.law4-all.net/vb/forumdisplay.php?f=6