حكم الشنيعة وحكم الشريعة
من نكبات الأيام التي تدور بنا ولا نديرها أن يستدل بعضنا بآيات القرآن الكريم في غير موضع الاستدلال ، وأن يرفع بعضنا صوته بقال الله وقال الرسول صلى الله عليه وسلم دون أن يعرف الواقع الذي يريد إخضاعه لحكم ما يتصور أنه الشرع ولا شرع غيره ، والأدهى من هذا أن يتعسف أحدهم في الاستدلال ليجعل رأيه مقدسا وليُسكِت من يختلف معه في الرأي فيتحول الاختلاف في الرأي إلى خلاف مع الإسلام .
" يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " هذه آية قرآنية من كتاب الله جل في علاه "والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" وهذه آية أخرى من القرآن الكريم ، وبهما نتعبد لله سبحانه وتعالى كأفراد في معاملاتنا مع الناس وكدولة في معاملاتنا مع باقي الدول ، وإذا كان الأصل هو الوفاء بالعقود والعهود ، والذي ينكث بعهده ووعده إنما هو من المنافقين فإن هذا الأصل ليس مطلقا مُحَصنا سرمديا فالأصل هو أن الأصل في المعاملات لابد وأن يرد عليه الاستثناء والاستثناء هو قرين الأصل يسير معه كظله وإلا لكان الدين صلبا جامدا جافا لا يصلح إلا لزمن واحد وجيل واحد ، أما الأصل السرمدي في الشريعة الذي ليس له استثناء فهو أن الشريعة الإسلامية هي شريعة السعة والمرونة وليست شريعة التضييق والحجر ، ولكن ليس معنى السعة والمرونة هو أن نضع "طاقية الشيخ حسن" على رأس "الحاخام شمعون" فيستلبها شمعون لنفسه ويتنعم بها في الوقت الذي تأن فيه رأس الشيخ حسن من البرودة !! .
عبقريُ ُ هو ذلك المصري الحكيم الحصيف الذي أطلق مثلا عاميا احتوى على نصف فقه المعاملات في الشريعة ظللنا نردده جيلا بعد جيل ( اللي يعوزه البيت يحرم على الجامع ) وحينما سألني صديق عن شرعية الاستدلال بالآية الكريمة " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود " في مجال إلزام مصر من الناحية الشرعية بالوفاء بعقد تصدير الغاز مع إسرائيل ، وقال لي إنه تناقش مع أحد العلماء في هذا الشأن فقال له العالم وهو يؤكد على ضرورة الوفاء بهذا العقد : " والموفون بعهدهم إذا عاهدوا " وقتها قلت للصديق : اللي يعوزه البيت المصري يحرم على العدو الإسرائيلي ألف مرة .. إن هذا الاستدلال شبيه بما قاله الممثل الراحل حسن البارودي للزوج الضعيف المغلوب على أمره حينما كان يساومه على أن يطلق زوجته كي يتزوجها العمدة الدنيء الظالم إذ قال له بصوته المتعرج : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم !! وهو أيضا مثل ذلك الترزي الذي وضع على باب حانوته الآية الكريمة " وكل شيء فصّلناه تفصيلا " للتدليل على أن تفصيل الملابس ورد ذكره في القرآن الكريم !! هذا هو العبث بعينه ومن عبث في الاستدلال حق لنا أن نعبس في وجهه .
وكان الأعجب أن قال هذا العالم الكبير أننا يجب أن نحافظ على عهدنا مع إسرائيل ويجب أن تكون سفارتها عندنا آمنة حتى ولو نقضوا هم عهدهم معنا وقتلوا جنودنا !! مع أن الأصل أنه لا عهد ولا ميثاق ولا أهلا ولا مرحبا مع من نكث عن عهده معنا وتعدى علينا .
فارق أيها العالم القدير بين العقد الذي يتفق مع الشريعة والعقد الذي بعقده يكون من عقده قد ارتكب جريمة يحال بموجبها إلى محكمة الجنايات مشفوعا بالعار والشنار ، ولا عهد مع من لعب بنا أمدا وأضاع معنى العهد بعبثه وإجرامه وتعديه .. فلا كرامة لعهد مع من لا عهد له ولا لعقد ــ عُقد قهرا رغم أنف الشعب ــ أراد عاقده بعقده أن يضع يده في جيوبنا ليسرقنا لحساب عدونا ويربح هو نصيبا معدودا ... وبريئة هي الشريعة الإسلامية من الظلم والغبن والفساد والإفساد ... فمن أراد أن يفسد ففساده عليه ، ومن أراد أن يتربح بغير حق وبالرِشا وجَبْر الخواطر فلا جَبَرَ اللهُ خاطرَه ، ومن أراد أن يظلم بلده مصر ويُجامل عدونا ويُسدي له صنيعا ــ لأنه صنيعته ــ فليجامله من ماله لا من مال مصر ، فلم تكن مصر ميراثا ورثه عن أبيه ولم نكن متاعا يتحكم فينا كما يشاء ويُملي علينا ما يشاء ويلزمنا بما يشاء ثم يأتي الزمن الذي يقول فيه أحدُنا وهو يتفاقه " أوفوا بالعقود " ليبرر لنا الفساد والظلم والإفساد ، وكأن الإسلام هو دين اليد السفلى والضعة والذلة والمهانة !! وكأن قدر مصر أن تتحمل نزق ونزوات من يحكمونها ، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا ما لا يعرفون .
وإذا كان القانون المصري يتفق مع الشريعة الإسلامية ومذاهبها في العقود وعقدها وشروطها وفسخها وانفساخها وبطلانها وإبطالها فإن الشريعة الإسلامية هي شريعة العدل والتعادلية التي انضبطت بها القوانين التي استُمدت منها ، لذلك جاءت الشريعة بما يضبط العقد ويعدل ميزانه بحيث لا يجور هذا على ذاك ولا تفتئت دولة على حق دولة ويكون العهد عندها مسؤولا .
فمن ناحية محل العقد وموضوعه فإنه يجب أن يكون منضبطا بالأحكام الشرعية التي تنهى عن الحرام والظلم وهضم الحقوق ، فحتى تنعقد المعاهدة ـ أو العقد الدولي ـ شرعا يجب أن يكون محلها شرعيا ، فلا يجوز أن يُجرِي الحاكم نيابة عن الأمة عقدا مع دولة أخرى يتضمن الإضرار بمال الدولة وإنقاص حقوقها مثل بيع سلعة من السلع التي من شأنها أن ترفع اقتصاد البلد إلى بلد آخر بسعر أقل من الأسعار العالمية فتضيع على دولتنا واقتصادنا أموالنا التي من شأنها أن تصلح أحوالنا ، ولا يجوز أبدا شرعا ولا قانونا لحاكم أن يمد عدو بلده وعدو بلاد المسلمين ــ الذي عقد معه هدنة ــ بمال أو عتاد أو غاز أو بترول مما يقوى به العدو المهادن مقابل ثمن بخس دراهم معدودة ، فينقلب هذا المال أو تلك السلع إلى أسلحة يتم توجيهها إلى صدورنا ويُقتل بها جنودنا على الحدود .
وإذا كانت مقاصد الشريعة تقوم على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال فإن العقد الذي تُنتقص فيه هذه المقاصد أو تضيع هو عقد لا يجوز الوفاء به أبدا ... والحق أن الوفاء بهذا العقد جريمة شنيعة في حق الشريعة ، وجريمة العصر في حق مصر ، ولكي يكون العقد في الشريعة الإسلامية صحيحا ملزما تنطبق عليه آيات الوفاء بالعهود والعقود والمعاهدات ينبغي ألا يكون هناك في العقد ما يؤدي إلى امتهان المسلمين أو الانتقاص من كرامتهم أو أموالهم أو أي شيء من هذا القبيل .