قضية رقم‎ 8 ‎لسنة‎ 17 ‎قضائية المحكمة الدستورية‎ ‎العليا‎ "‎دستورية‎"‎


نص‎ ‎الحكم‎
‎------------------‎
باسم الشعب
المحكمة الدستورية العليا
‏ ‏
بالجلسة العلنية المنعقدة يوم السبت 18 مايو 1996 الموافق 30 ذو الحجة 1416 ه• ‏
برئاسة السيد المستشار الدكتور/ عوض محمد عوض المر رئيس المحكمة ‏
وعضوية السادة المستشارين: محمد ولى الدين جلال ونهاد عبد الحميد خلاف وفاروق عبد الرحيم ‏غنيم وعبد الرحمن نصير والدكتور عبد المجيد فياض ومحمد على سيف الدين• ‏
وحضور السيد المستشار الدكتور/ حنفى على جبالى رئيس هيئة المفوضين ‏
وحضور السيد/ حمدى أنور صابر أمين السر
‏ ‏
أصدرت الحكم الأتى
فى القضية المقيدة بجدول المحكمة الدستورية العليا برقم 8 لسنة 17 قضائية "دستورية". المحالة ‏من محكمة القضاء الإدارى بالحكم الصادرعنها فى الدعوى رقم 21 لسنة 49 قضائية
‏ ‏
المقامة من
السيد / محمود سامى محمد على واصل ‏
‏ بصفته وليا طبيعيا على ابنتيه مريم وهاجر ‏
‏ ‏
ضد
‏1- السيد/ وزير التعليم ‏
‏2- السيد/ مدير مديرية التعليم بالإسكندرية ‏
‏3- السيد ة/ مديرة مدرسة إيزيس الثانوية بنات بالسيوف
‏ ‏
الإجراءات ‏
ورد إلى قلم كتاب المحكمة ملف الدعوى رقم 21 لسنة 49 قضائية، بعد أن قضت محكمة ‏القضاء الإدارى بالإسكندرية، بإحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية العليا للفصل فى مدى ‏دستورية قرار وزير التعليم رقم 113 لسنة 1994 المفسر بالقرار رقم 208 لسنة 1994• ‏
‏ وقدمت هيئة قضايا الدولة مذكرة بدفاعها، طلبت فيها الحكم برفض الدعوى • ‏
‏ وبعد تحضير الدعوى، أودعت هيئة المفوضين تقريراً برأيها • ‏
‏ ونظرت الدعوى على الوجه المبين بمحضر الجلسة، وقررت المحكمة إصدار الحكم فيها ‏بجلسة اليوم •‏
‏ ‏
المحكمة ‏
بعد الاطلاع على الأوراق، والمداولة • ‏
‏ حيث إن الوقائع -حسبما يبين من صحيفة الدعوى وسائر الأوراق- تتحصل فى أن ‏السيد/ محمود سامى على واصل كان قد أقام أمام محكمة القضاء الإدارى بالإسكندرية -وبصفته ‏وليا طبيعيا على إبنتيه مريم وهاجر - الدعوى رقم 21 لسنة 49 قضائية ضد وزير التعليم، طالبا ‏فيها الحكم بوقف تنفيذ وإلغاء القرار السلبى الصادر بالامتناع عن قبول ابنتيه هاتين بإحدى ‏المدارس الثانوية • وقال شرحا لدعواه، إنه كان قد توجه بهما إلى مدرسة إيزيس الثانوية للبنات ‏بالسيوف، إلا أنه فوجئ بطردهما منها تأسيسا على صدور قرار من وزير التعليم يمنع الطالبة ‏المنتقبة من دخولها بالمخالفة لحكم المادتين 2، 41 من الدستور التى تنص أولاهما: على أن ‏الإسلام دين الدولة ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى لكل تشريعاتها، وتكفل ثانيتهما: ‏صون الحرية الشخصية وتحول دون المساس بها• وقد قضت محكمة القضاء الإدارى -وأثناء ‏نظرها الشق العاجل من الدعوى- أولا: بقبول الدعوى شكلا، وبوقف تنفيذ القرار المطعون فيه ‏فيما تضمنه من منع ابنتى المدعى من دخول مدرستهما منتقبتين، وألزمت الإدارة المصروفات ‏وأمرت بتنفيذ الحكم بموجب مسودته بغير إعلان• ثانيا: إحالة الأوراق إلى المحكمة الدستورية ‏العليا للفصل فى مدى دستورية قرار وزير التعليم رقم 113 لسنة 1994 والمفسر بالقرار رقم 208 ‏لسنة 1994 • وأقامت محكمة القضاء الإدارى قضاءها على أن القرار المطعون فيه، قد صدر ‏استنادا إلى قرار وزير التعليم رقم 113 لسنة 1994 الصادر فى 17/8/1994 متضمنا تحديد هيئة ‏الزى المدرسي من حيث لونه وشكله ومكوناته، ومفسرا بمقتضى قراره رقم 208 لسنة 1994، ‏وإن الفصل فيما إذا كان هذان القراران -وقد انطويا على قواعد عامه مجردة- يخلان بحرية ‏العقيدة التى كفل الدستور أصلها بنص المادة 46، مما يدخل فى ولاية المحكمة الدستورية العليا ‏دون غيرها، لتكون كلمتها فى شأن اتفاقهما أو تعارضهما مع الدستور، قولا فصلاً، مما يقتضى ‏إحالة الأوراق إليها- وعملا بالبند أ من المادة 29 من قانونها - وذلك للفصل فى دستورية هذين ‏القرارين • وحيث إن البين من قرار وزير التعليم رقم 113 لسنة 1994 المشار إليه، أنه ‏نص فى مادته الأولى على أن يلتزم تلاميذ وتلميذات المدارس الرسمية والخاصة، بارتداء زى ‏موحد وفقا للمواصفات الأتية : أولا : الحلقة الابتدائية "بنين وبنات"•مريلة تيل لجميع التلاميذ ‏باللون الذى تختاره المديرية التعليمية - يمكن ارتداء بنطلون فى فصل الشتاء يكون موحدا ‏ومناسبا طبقا لما تحدده المديرية التعليمية • ويجوز استبدال المريلة بقميص وجونلة بطول مناسب ‏بالنسبة للبنات،وقميص وبنطلون بالنسبة للبنين مع ارتداء بلوفر أو جاكت فى فصل الشتاء وفق ما ‏تقرره المديرية التعليمية • - حذاء مدرسى وجورب مناسب بلون الزى المختار• ثانيا : الحلقة ‏الإعدادية : 1 - التلاميذ : بنطلون طويل - قميص بلون مناسب - فى فصل الشتاء يمكن ‏ارتداء بلوفر أو جاكت وفق ماتقرره المديرية التعليمية • 2 - التلميذات : بلوزة بيضاء - ‏مريلة من قماش تيل ( دريل ) بحمالات باللون الذى تختاره المديرية التعليمية - فى فصل الشتاء ‏يمكن أن يكون قماش المريلة صوفا، ويمكن كذلك أن ترتدى التلميذة بلوفر أو جاكت بلون المريلة • ‏ويجوز استبدال المريلة بقميص طويل بطول مناسب - حذاء مدرسى وجورب بلون مناسب للزى ‏المختار • يمكن بناء على طلب مكتوب من ولى الأمر أن ترتدى التلميذة غطاء للشعر لا يحجب ‏الوجه باللون الذى تختاره المديرية التعليمية • ثالثا : المرحلة الثانوية وما ‏فى مستواها : 1 - التلاميذ : بنطلون طويل - قيمص بلون مناسب - فى فصل الشتاء ‏يمكن ارتداء بلوفر أو جاكت وفق ماتقرره المديرية التعليمية • 2 - التلميذات : بلوزة ‏بيضاء - جونلة تيل بطول مناسب بلون تحدده المديرية التعليمية - فى فصل الشتاء يمكن أن ‏تكون المريلة صوفا، كما يمكن أن ترتدى التلميذه بلوفرا أو جاكيتا بلون المريلة - يمكن بناء ‏على طلب مكتوب من ولى الأمر، أن ترتدى التلميذة غطاء للشعر لايحجب الوجه باللون الذى ‏تختاره المديرية التعليمية - حذاء مدرسى وجورب بلون مناسب للزى المختار • ‏
وتكفل المادتان الثانية والثالثة من هذا القرار، إعلان الزى المدرسى المقرر على تلاميذ كل ‏مدرسة وتلميذاتها فى مكان ظاهر قبل بدء العام الدراسى بشهرين على الأقل، ولايجوز لمن يخالف ‏حكم المادة الأولى من هذا القرار من تلاميذها أو تلميذاتها دخول مدرستهم أو الانتظام فيها ‏وبمراعاة أن يكون زيهم مناسبا فى كل الأحوال سواء فى مظهره أو أسلوب ارتدائه • ‏
‏ وحيث إن وزير التعليم أصدر بعد القرار الأول - وإزاء ما التبس بمعناه من غموض - ‏قرارا ثانيا مفسرا للقرار السابق ومحددا فحواه ، ومن ثم نص القرار اللاحق - وهو القرار رقم ‏‏208 لسنة 1994- على أن يقصد بالعبارات التالية - فى تطبيق أحكام القرار رقم 113 لسنة ‏‏1994 - المعانى المبينة قرين كل منها • أولا : بالنسبة إلى تلميذات المرحلتين الإعدادية ‏والثانوية : 1 - بناء على طلب مكتوب من ولى الأمر : أن يكون ولى الأمر على علم ‏باختيار التلميذه لارتداء غطاء الشعر، وإن اختيارها لذلك وليد رغبتها دون ضغط أو إجبار من ‏شخص أو جهة غير ولى الأمر، وعلى ذلك لاتمنع التلميذة من دخول مدرستها إذا كانت ترتدى ‏غطاء للشعر، وإنما يحل لها الدخول، على أن يتم التحقق من علم ولى الأمر • 2 - غطاء ‏الشعر : الغطاء الذى تختاره التلميذة برغبتها بما لايحجب وجهها • ولايعتد بأية نماذج أو رسوم ‏توضيحية تعبر عن غطاء الشعر بما يناقض ذلك • ثانيا : بالنسبة للتلميذات فى جميع مراحل ‏التعليم الثلاث : أن يكون الزى مناسبا فى مظهره وأسلوب ارتدائه : المحافظة فى الزى بما يرعى ‏الاحتشام، وبما يتفق مع تعاليم وأخلاق مجتمعهن •وكل زى يخرج على هذا الاحتشام، يكون مخالفا ‏للزى المدرسى ، ولايسمح للتلميذه التى ترتديه بدخول مدرستها • ‏
‏ وحيث إن قضاء المحكمة الدستورية العليا مطرد على أن مانص عليه الدستور فى مادته ‏الثانية - بعد تعديلها فى سنة 1980 - من أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى ‏للتشريع، إنما يتمحض عن قيد يجب على كل من السلطتين التشريعية والتنفيذية أن تتحراه وتنزل ‏عليه فى تشريعاتها الصادرة بعد هذا التعديل - ومن بينها أحكام القرار رقم 113 لسنة 1994، ‏المفسر بالقرار رقم 208 لسنة 1994 المطعون عليهما – فلا يجوز لنص تشريعى، أن يناقض ‏الأحكام الشرعية القطعية فى ثبوتها ودلالتها، باعتبار أن هذه الأحكام وحدها هى التى يكون ‏الاجتهاد فيها ممتنعا، لأنها تمثل من الشريعة الإسلامية مبادؤها الكلية، وأصولها الثابتة التى ‏لاتحتمل تأويلاً أو تبديلاً • ‏
‏ ومن غير المتصور بالتالى أن يتغير مفهومها تبعاً لتغير الزمان والمكان، إذ هى عصية ‏على التعديل، ولايجوز الخروج عليها، أوالالتواء بها عن معناها • وتنصب ولاية المحكمة ‏الدستورية العليا فى شأنها، على مراقبة التقيد بها، وتغليبها على كل قاعدة قانونية تعارضها • ذلك ‏أن المادة الثانية من الدستور، تقدم على هذه القواعد، أحكام الشريعة الإسلامية فى أصولها ‏ومبادئها الكلية، إذ هى إطارها العام، وركائزها الأصيلة التى تفرض متطلباتها دوماً بما يحول دون ‏إقرار أية قاعدة قانونية على خلافها؛ وإلا اعتبر ذلك تشهيا وإنكاراً لما علم من الدين بالضرورة • ‏ولا كذلك الأحكام الظنية غير المقطوع بثبوتها أو بدلالتها أو بهما معا، ذلك أن دائرة الاجتهاد ‏تنحصر فيها، ولاتمتد لسواها، وهى بطبيعتها متطورة تتغير بتغير الزمان والمكان، لضمان مرونتها ‏وحيويتها، ولمواجهة النوازل على اختلافها، تنظيما لشئون العباد بما يكفل مصالحهم المعتبرة ‏شرعاً، ولايعطل بالتالى حركتهم فى الحياة، على أن يكون الاجتهاد دوماً واقعا فى إطار الأصول ‏الكلية للشريعة بما لايجاوزها؛ ملتزما ضوابطها الثابتة، متحريا مناهج الاستدلال على الأحكام ‏العملية، والقواعد الضابطة لفروعها، كافلا صون المقاصد العامة للشريعة بما تقوم عليه من حفاظ ‏على الدين والنفس والعقل والعرض والمال • ‏
‏ وحيث إن إعمال حكم العقل فيما لا نص فيه، تطويرا لقواعد عملية تكون فى مضمونها ‏أرفق بالعباد وأحفل بشئونهم، وأكفل لمصالحهم الحقيقية التى تشرع الأحكام لتحقيقها، وبما ‏يلائمها، مرده أن شريعة الله جوهرها الحق والعدل، والتقيد بها خير من فساد عريض، وانغلاقها ‏على نفسها ليس مقبولا ولامطلوبا، ذلك أنها لاتمنح أقوال أحد من الفقهاء فى شأن من شئونها، ‏قدسية تحول دون مراجعتها وإعادة النظر فيها، بل وإبدالها بغيرها • فالآراء الاجتهادية فى المسائل ‏المختلف عليها ليس لها فى ذاتها قوة متعدية لغير القائلين بها، ولايجوز بالتالى اعتبارها شرعا ‏ثابتا متقرراً لايجوز أن ينقض، وإلا كان ذلك نهيا عن التأمل والتبصر فى دين الله تعالى، وإنكارا ‏لحقيقة أن الخطأ محتمل فى كل اجتهاد• بل إن من الصحابة من تردد فى الفتيا تهيبا • ومن ثم ‏صح القول بأن اجتهاد أحد من الفقهاء ليس أحق بالاتباع من اجتهاد غيره، وربما كان أضعف ‏الآراء سندا، أكثرها ملاءمة للأوضاع المتغيرة، ولو كان مخالفا لآراء استقر عليها العمل زمنا • ‏وتلك هى الشريعة الإسلامية فى أصولها ومنابتها، متطورة بالضرورة، نابذة الجمود، لايتقيد ‏الاجتهاد فيها - وفيما لا نص عليه - بغير ضوابطها الكلية، وبما لايعطل مقاصدها التى ينافيها أن ‏يتقيد ولى الأمر فى شأن الأحكام الفرعية والعملية المستجيبة بطبيعتها للتطور، لآراء بذاتها لايريم ‏عنها، أو أن يقعد باجتهاده عند لحظة زمنية معينة تكون المصالح المعتبرة شرعا قد جاوزتها • ‏
وحيث إن من المقرر -على ضوء ماتقدم- أن لولى الأمر أن يُشَرع بما يرد الأمر المتنازع ‏عليه إلى الله ورسوله، مستلهما فى ذلك أن المصالح المعتبرة، هى تلك التى تكون مناسبة لمقاصد ‏الشريعة، متلاقية معها، وهى بعد مصالح لاتتناهى جزئياتها، أو تنحصر تطبيقاتها، ولكنها تتحدد ‏‏- مضمونا ونطاقا - على ضوء أوضاعها المتغيرة • يؤيد ذلك أن الصحابة والتابعين، والأئمة ‏المجتهدين، كثيراً ماقرروا أحكاما متوخين بها مطلق مصالح العباد، طلبا لنفعهم أو دفعا لضرر ‏عنهم أو رفعا لحرجهم، باعتبار أن مصالحهم هذه، تتطور على ضوء أوضاع مجتمعاتهم، وليس ‏ثمة دليل شرعى على اعتبارها أو إلغائها • وحيث إن الأصل فى سلطة المشرع فى مجال ‏تنظيم الحقوق، أنها سلطة تقديرية مالم يقيد الدستور ممارستها بضوابط تحد من إطلاقها، وتكون ‏تخوما لها لايجوز اقتحام آفاقها أو تخطيها سواء بنقضها أو انتقاصها من أطرافها، ذلك أن إهدار ‏الحقوق التى كفلها الدستور أو تهميشها، عدوان على مجالاتها الحيوية التى لاتتنفس إلا من خلالها ‏‏• ولايجوز بالتالى أن يكون تنظيم هذه الحقوق، مناقضا لفحواها، بل يتعين أن يكون منصفا ‏ومبرراً• ‏
‏ وحيث إن البين من المطاعن التى نسبتها محكمة الموضوع إلى القرار المطعون ‏فيه، وكذلك تلك التى طرحها الطاعن عليها باعتباره والد الطالبتين اللتين طردتا من مدرستهما ‏لتنقبهما، أنها لاتتعلق بأزياء البنين من طلبة المراحل الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية وما فى ‏مستواها من ناحية هيئتها ومكوناتها، ولكنها تتناول أصلا ماتقرر لطالباتها من أزياء سواء فى ‏مظهرها أو مواصفاتها أو أسلوبهن فى ارتدائها، وكذلك ملامح وخصائص خُمِْرهن، لتنحصر ‏المناعى الدستورية فى هذا النطاق لاتتعداه • وحيث إن القرار المطعون فيه، قد قرر لكل ‏فتاة تلتحق بإحدى المراحل التعليمية التى نص عليها، هيئة محددة لزيها تكفل فى أوصافها الكلية، ‏مناسبتها لها، ولايكون موضعها من بدنها كاشفا عما ينبغى ستره منها، بل يكون أسلوبها فى ‏ارتدائها كافلا احتشامها، ملتزما تقاليد وأخلاق مجتمعها • ‏
‏ وحيث إن الشريعة الإسلامية - فى تهذيبها للنفس البشرية وتقويمها للشخصية ‏الفردية - لاتقرر إلا جوهر الأحكام التى تكفل بها للعقيدة إطارا يحميها، ولأفعال المكلفين مايكون ‏ملتئما مع مصالحهم المعتبرة، فلا يبغونها عوجا، ولايحيدون أبدا عن الطريق إلى ربهم ‏تعالى، بل يكون سلوكهم أطهر لقلوبهم، وأدعى لتقواهم • وفى هذا الإطار، أعلى الإسلام قدر ‏المرأة، وحضها على صون عفافها، وأمرها بستر بدنها عن المهانة والابتذال، لتسمو المرأة ‏بنفسها عن كل مايشينها أو ينال من حيائها، وعلى الأخص من خلال تبرجها، أو لينها فى القول، ‏أو تكسر مشيتها؛ أو من خلال إظهارها محاسنها إغواءً لغيرها، أو بإبدائها مايكون خافيا من ‏زينتها • وليس لها شرعا أن تطلق إرادتها فى اختيارها لزيها، ولا أن تقيم اختيارها هذا بهواها، ‏ولا أن تدعى تعلق زيها بدخائلها، بل يتعين أن يستقيم كيانها، وأن يكون لباسها عونا لها على ‏القيام بمسئوليتها فى مجال عمارة الأرض، وبمراعاة أن هيئة ثيابها ورسمها، لاتضبطهما نصوص ‏مقطوع بها سواء فى ثبوتها أو دلالتها، لتكون من المسائل الاختلافية التى لا ينغلق الاجتهاد فيها، ‏بل يظل مفتوحا فى إطار ضابط عام حددته النصوص القرآنية ذاتها إذ يقول تعالى "وليضرين ‏بخمرهن على جيوبهن" "ولايبدين زينتهن إلا ماظهر منها" "يدنين عليهن من جلابيبهن" ‏‏"ولايضربن بأرجلهن ليعلم مايخفين من زينتهن" ليخرج لباس المرأة بذلك عن أن يكون من الأمور ‏التعبدية التى لاتبديل فيها، بل يكون لولى الأمر السلطة الكاملة التى يشرع بها الأحكام العملية فى ‏نطاقها، تحديدا لهيئة ردائها أو ثيابها على ضوء مايكون سائدا فى مجتمعها بين الناس مما يعتبر ‏صحيحا من عاداتهم وأعرافهم التى لايصادم مفهومها نصا قطعيا، بل يكون مضمونها متغيرا بتغير ‏الزمان والمكان، وإن كان ضابطها أن تحقق الستربمفهومه الشرعى، ليكون لباس المرأة تعبيراً ‏عن عقيدتها • ‏
‏ وحيث إن تنازع الفقهاء فيما بينهم فى مجال تأويل النصوص القرآنية، وما نقل عن ‏الرسول من أحاديثه صحيحها وضعيفها، وإن آل إلى تباين الآراء فى شأن لباس المرأة، وماينبغى ‏ستره من بدنها، إلا أن الشريعة الإسلامية -فى جوهر أحكامها وبمراعاة مقاصدها- تتوخى من ‏ضبطها لثيابها، أن تعلى قدرها، ولاتجعل للحيوانية مدخلا إليها، ليكون سلوكها رفيعا لا ابتذال فيه ‏ولا اختيال، وبما لا يوقعها في الحرج إذا اعتبر بدنها كله عورة مع حاجتها إلى تلقى العلوم على ‏اختلافها، وإلى الخروج لمباشرة ما يلزمها من الأعمال التىتختلط فيها بالآخرين، وليس متصورا ‏بالتالى أن تموج الحياة بكل مظاهرها من حولها، وأن يطلب منهاعلى وجه الإقتضاء، أن تكون ‏شبحا مكسوا بالسواد أو بغيره، بل يتعين أن يكون لباسها شرعا قرين تقواها، وبما لايعطل ‏حركتها فى الحياة، فلا يكون محدداً لجمال صورتها، ولا حائلا دون يقظتها، ومباشرتها لصور ‏النشاط التى تفرضها حاجتها ويقتضيها خير مجتمعها، بل موازنا بين الأمرين، ومُحَدَّدا على ضوء ‏الضرورة، وبمراعاة ما يعتبر عادة وعرفا صحيحين • ولايجوز بالتالى أن يكون لباسها ، ‏مجاوزا حد الاعتدال، ولا احتجابا لكل بدنها ليضيق عليها اعتسافا، ولا إسدالا لخمارها من وراء ‏ظهرها، بل اتصالا بصدرها ونحرها فلا ينكشفان، مصداقا لقوله تعالى "وليضربن بخمرهن على ‏جيوبهن" واقترانا بقوله جل شأنه بأن "يدنين عليهن من جلابيبهن" فلا يبدو من ظاهر زينتها إلا ‏مالايعد عورة، وهما وجهها وكفاها، بل وقدماها عند بعض الفقهاء "ابتلاء بإبدائهما" على حد قول ‏الحنفية،ودون أن يضربن بأرجلهن "ليعلم مايخفين من زينتهن" • وقد دعا الله تعالى الناس ‏جميعا أن يأخذوا زينتهم ولايسرفوا، وهو مايعنى أن التزامها حد الاعتدال، يقتضى ألا تصفها ثيابها ‏ولاتشى بما تحتها من ملامح أنوثتها، فلا يكون تنقبها مطلوبا منها شرعا طلبا جازما، ولا سترها ‏لزينتها شكلا مجردا من المضمون، بل يتعين أن يكون مظهرها منبئا عن عفافها، ميسرا لإسهامها ‏المشروع فيما يعينها على شئون حياتها، ويكون نائيا بها عن الابتذال، فلا يقتحمها رجال ‏استمالتهم إليها بمظاهر جسدها، مما يقودها إلى الإثم انحرافا، وينال من قدرها ومكانتها • ‏
‏ وحيث إنه متى كان ماتقدم، وكان تحريم أمر أو شأن من الشئون، لايتعلق بما هو ‏محتمل، بل بما يكون معلوما بنص قطعى، وإلا ظل محمولا على أصل الحل؛ وكان لادليل من ‏النصوص القرآنية، ولا من سنتنا الحميدة على أن لباس المرأة يتعين شرعا أن يكون احتجابا ‏كاملا، متخذا نقابا محيطا بها منسدلا عليها لاُيظِْهر منها إلا عينيها ومحجريهما، فإن إلزامها إخفاء ‏وجهها وكفيها، وقدميها عند البعض، لايكون تأويلا مقبولا، ولامعلوما من الدين بالضرورة، ذلك ‏أن معنى العورة المتفق عليها لايتصل بهذه الأجزاء من بدنها، بل إن كشفها لوجهها أعون على ‏اتصالها بأخلاط من الناس يعرفونها، ويفرضون نوعا من الرقابة على سلوكها، وهو كذلك أكفل ‏لحيائها وغضها من بصرها وأصون لنفسيتها، وأدعى لرفع الحرج عنها • وما ارتآه البعض ‏من أن كل شئ من المرأة عورة حتى ظفرها، مردود بأن مالكا وأبا حنيفة وأحمد بن حنبل فى ‏رواية عنه، والمشهور عند الشافعية، لايرون ذلك • والرسول عليه السلام يصرح بأن بلوغ المرأة ‏المحيض، يقتضيها أن يكون ثوبها ساترا لبدنها عدا وجهها وكفيها • ‏
‏ وحيث إن استقراء الأحكام التى جرى بها القرار المطعون فيه، يدل على أن لكل طالبة أن ‏تتخذ خماراً تختاره برغبتها، ولايكون ساترا لوجهها، على أن يشهد ولى أمرها بأن اتخاذها ‏الخمار غطاء لرأسها، ليس ناجما عن تدخل آخرين فى شئونها بل وليد إراداتها الحرة، وهى ‏شهادة يمكن أن يقدمها بعد انتظامها فى دراستها • كذلك دل هذا القرار، على أن زيها ‏ينبغى أن يكون مناسبا مظهرا وطرازا - لا بمقاييسها الشخصية - ولكن بما يرعى احتشامها، ‏ويكون موافقا لتقاليد وأخلاق مجتمعها• ولايجوز أن يكون أسلوبها - فى مجال ارتدائها لزيها - ‏دالا على فحشها • ولايناقض القرار المطعون فيه - فى كل ماتقدم - نص المادة الثانية من ‏الدستور، ذلك أن لولى الأمر - فى المسائل الخلافية - حق الاجتهاد بما ييسر على الناس شئونهم، ‏ويعكس مايكون صحيحاً من عاداتهم وأعرافهم، وبما لايعطل المقاصد الكلية لشريعتهم التى ‏لاينافيها أن ينظم ولى الأمر - فى دائرة بذاتها - لباس الفتاة، فلا يكون كاشفاً عن عورتها أو ‏ساقيها، ولا واشياً ببدنها، أو منبئاً عما لايجوز إظهاره من ملامحها، أو نافياً لحيائها، وهو ‏ماتوخاه هذا القرار، حين ألزم كل تلميذة تلتحق بإحدى المراحل التعليمية التى نص عليها، بأن ‏يكون زيها مناسباً حائلاً دون تبذلها، ناهياً عن عريها أو إظهار مفاتنها، بل إن أسلوبها فى ارتداء ‏زيها يتعين فوق هذا، أن يكون ملائماً لقيمها الدينية التى تندمج بالضرورة فى أخلاق مجتمعها ‏وتقاليده •كذلك فإن خمارها وفقاً لهذا القرار، ليس إلا غطاء لرأسها لايحجب وجهها وكفيها، وإن ‏كان مترامياً إلى صدرها ونحرها، فلا يكفى أن تلقيه من وراء ظهرها • ‏
‏ وحيث إن النعى على القرار المطعون فيه، مخالفته لحرية العقيدة التى نص عليها ‏الدستور فى المادة 46، مردود بأن هذه الحرية - فى أصلها - تعنى ألايحمل الشخص على القبول ‏بعقيدة لايؤمن بها، أو التنصل من عقيدة دخل فيها أو الإعلان عنها، أو ممالأة إحداها تحاملاً على ‏غيرها سواء بإنكارها أو التهوين منها أو ازدرائها، بل تتسامح الأديان فيما بينها، ويكون احترامها ‏متبادلاً • ولايجوز كذلك فى المفهوم الحق لحرية العقيدة، أن يكون صونها لمن ‏يمارسونها إضراراً بغيرها، ولا أن تيسر الدولة -سرا أو علانية- الانضمام إلى عقيدة ترعاها، ‏إرهاقا لآخرين من الدخول فى سواها، ولا أن يكون تدخلها بالجزاء عقابا لمن يلوذون بعقيدة ‏لاتصطفيها• وليس لها بوجه خاص إذكاء صراع بين الأديان تمييزاً لبعضها على البعض • كذلك ‏فإن حرية العقيدة لايجوز فصلها عن حرية ممارسة شعائرها، وهو ماحمل الدستور على أن يضم ‏هاتين الحريتين فى جملة واحدة جرت بها مادته السادسة والأربعون بما نصت عليه من أن حرية ‏العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية، مكفولتان• وهو ما يعنى تكاملهما، وأنهما قسيمان ‏لاينفصلان، وأن ثانيتهما تمثل مظاهر أولاهما باعتبارها انتقالاً بالعقيدة من مجرد الإيمان بها ‏واختلاجها فى الوجدان، إلى التعبير عن محتواها عملاً ليكون تطبيقها حياً، فلا تكمن فى الصدور، ‏ومن ثم ساغ القول بأن أولاهما لاقيد عليها، وأن ثانيتهما يجوز تقييدها من خلال تنظيمها، توكيدا ‏لبعض المصالح العليا التى ترتبط بها، وبوجه خاص مايتصل منها بصون النظام العام والقيم ‏الادبية، وحماية حقوق الآخرين وحرياتهم • ‏
وحيث إنه متى كان ذلك، وكان القرار المطعون فيه لاينال من حرية العقيدة، ولايقوض ‏أسسها أو يعطل شعائر ممارستها و لايناهض جوهر الدين فى الأصول الكلية التى يقوم عليها، بل ‏يعتبر اجتهادا مقبولا شرعا لايتوخى غير تنظيم رداء للفتاة - فى دائرة المعاهد التعليمية عبر ‏المراحل الدراسية التى حددها - بما لاينتقص من حيائها أو يمس عفافها، أو يشى بعوراتها، فإن ‏هذا القرار يدخل فى دائرة تنظيم المباح، ولايعد افتتائا على حرية العقيدة• ‏
‏ وحيث إن ماينعاه المدعى من إخلال القرار المطعون فيه بالحرية الشخصية بمقولة أن ‏قوامها الاستقلال الذاتى لكل فرد بالمسائل التى تكون أكثر إتصالاً بمصيره وتأثيراً فى أوضاع الحياه ‏التى إختار أنماطها، لتكتمل لشخصيته ملامحها، مردود بأنه حتى وإن جاز القول بأن مظهر ‏الشخص من خلال الأزياء التى يرتديها، يبلور إرادة الإختيار التى تمثل نطاقاً للحرية الفردية يرعى ‏مقوماتها ويكفل جوهر خصائصها، إلا أن إرادة الإختيار هذه، ينبغى قصر مجال عملها على مايكون ‏لصيقاً بالشخصية، مرتبطاً بذاتية الانسان فى دائرة تبرز معها ملامح حياته وقراراته الشخصية فى ‏أدق توجهاتها، وأنبل مقاصدها، كالحق فى اختيار الزوج وتكوين الأسرة، وأن يتخذ الشخص ولداً، ‏ولايجوز بالتالى بسطها إلى تنظيم محدد، ينحصر فى دائرة بذاتها، يكون الصالح العام ماثلاً فيها، ‏ضبطا لشئون هؤلاء الذين يقعون فى محيطها، ويندرج تحتهم طلبة المراحل الابتدائية والاعدادية ‏والثانوية وطالباتها، وهو مايعنى أن الحرية الشخصية لاينافيها أن يفرض المشرع "فى دائرة ‏بذاتها" قيودا على الأزياء التى يرتديها بعض الأشخاص "فى موقعهم من هذه الدائرة" لتكون لها ‏ذاتيتها، فلا تختلط أرديتهم بغيرها، بل ينسلخون فى مظهرهم عمن سواهم، ليكون زيهم موحدا، ‏متجانسا ولائقا، دالا عليهم ومُعَرفا بهم، وميسرا صوراً من التعامل معهم، فلاتكون دائرتهم هذه ‏نهبا لآخرين يقتحمونها غيلة وعداونا، ليلتبس الأمر فى شأن من ينتمون إليها حقا وصدقا • ‏
‏ وحيث إن التعليم وإن كان حقا مكفولاً من الدولة، إلا أن التعليم كله -وعلى ماتنص عليه ‏المادة 18 من الدستور- خاضع لإشرافها، وعليها بالتالى أن ترعى العملية التعليمية بكل مقوماتها، ‏وبما يكفل الربط بين التعليم ومتطلبات مجتمعها، وأن يكون تنظيمها لشئون طلبة بعض المعاهد ‏وطالباتها مبررا من خلال علاقة منطقية بين مضمون هذا التنظيم، والأغراض التى توخاها وارتبط ‏بها، وهو ماتحقق فى واقعة النزاع الراهن على ضوء الشروط التى حددها القرار المطعون فيه ‏لأزياء المراحل التعليمية الثلاث التى نص عليها، ذلك أن هذا القرار لم يطلق أزياء طلبتها وطالباتها ‏من القيود، بل جعل رداءهم محتشماً موحداً وملائماً، فلا يندمجون فى غيرهم، أويختلطون بمن ‏سواهم ، بل يكون زيهم فى معاهد هذه المراحل، معرفا بهم دالاً عليهم، كافلا صحتهم النفسية ‏والعقلية، وبما لايخل بقيمهم الدينية، فلا يتفرقون بدداً • ‏
وحيث إن القرار المطعون فيه لايناقض أحكام الدستور من أوجه أخرى •‏
‏ ‏
فلهذه الأسباب
حكمت المحكمة برفض الدعوىِ
صدر هذا الحكم من الهيئة المبينة بصدره، أما المستشار عبد الرحمن نصير الذى سمع المرافعة ‏وحضر المداولة ووقع مسودة الحكم، فقد جلس بدله عند تلاوته السيد المستشار محمد عبد القادر ‏عبد الله •‏