اسم المستخدم: كلمة المرور: نسيت كلمة المرور



 

 

    مكتبة الأبحاث القانونية      أبحاث في القانون الإداري      إدارة قضايا الحكومة ماضيها ونظامها ومستقبلها

        
 
  المؤلف : المعرب يوسف قسيس   المصدر : مجلة المحاماة - مصر سنة 1924
    إدارة قضايا الحكومة ماضيها ونظامها ومستقبلها

مجلة المحاماة - العدد الثامن والتاسع
السنة الرابعة - مايو ويونيه

إدارة قضايا الحكومة ماضيها ونظامها ومستقبلها
محاضرة ألقاها جناب المسيو بيولا كازللي المستشار الملكي لرئاسة مجلس الوزراء ورئيس لجنة قضايا الحكومة [(1)]
معربة بقلم حضرة الأستاذ يوسف بك قسيس النائب بقسم قضايا الداخلية

أيها السادة:
علم أحد أصدقائي بموضوع محاضرتي هذه فسألني قائلاً: أيترافع قلم القضايا عن قلم القضايا ؟ أو كما جاء في الأمثال الرومانية (يدافع شيشرون عن أهل بيته ؟!!!) [(2)].
وفي الواقع أن هذه الملاحظة فيها شيء من الحق لأني سأتكلم حتمًا عن الخدمات التي أدتها أقلام القضايا وتؤديها الآن لمصلحة الحكومة، ولكن الغرض الأساسي الذي أتوخاه من هذه المحاضرة إنما هو سد نقص بدا لي في مباحث القانون الإداري المصري، ذلك لأني لم أجد حتى هذه اللحظة بحثًا أو على الأقل تقريرًا رسميًا عن نظام أقلام قضايا الحكومة، ويلوح لي أن هناك فائدة إن لم أقل ضرورة في الفترة السياسية الحاضرة من إحاطة الرأي العام علمًا بنظام هذه المصلحة، أو بعبارة أخرى رأيت من الواجب إرشاد القابضين على أزمة الأمور إلى كيفية تسيير هذا الفرع الذي يمكن اعتباره أداة مهمة في دولاب الحكومة، وعلى كل حال فأني استسمحكم عذرًا عن شدة تعلقي بهذه المصلحة العريقة التي أراني مخلصًا لها كل الإخلاص.
أولاً: نشأة إدارة قضايا الحكومة:
كانت سنة 1875 وكانت حكومة الخديو إسماعيل في ذلك العهد قد تمكنت بعد جهاد ثماني سنوات من التغلب على المعارضة وعلى العقبات السياسية التي كانت تضعها في طريقها الدول صاحبة الامتيازات.
وفي 28 يونيو من تلك السنة احتفل سمو الخديو بافتتاح المحاكم المختلطة في سراي رأس التين الفخمة بالإسكندرية وبذلك وضع أساس من أسس مدنية مصر الحديثة التي سجلها التاريخ.
وما كاد صدى هذا الاحتفال يغيب عن الأذهان حتى استدعت الحكومة الخديوية إلى مصر أربعة من المتشرعين الأجانب لوضع أساس نظام آخر هو نظام لجنة مستشاري الحكومة بقصد تكميل نظام المحاكم المختلطة وأني أرغب في تسجيل أسماء المؤسسين لإدارة قضايا الحكومة وهم:
أولاً: المسيو كازمير أرا (Casimir Ara) أحد النواب سابقًا ووكيل وزارة في إيطالية.
ثانيًا: المسيو إداورد كلبر (Edward Kelber)المحامي والعضو في الحزب الإيطالي المستقل عن دالماسيا.
ثالثًا: المسيو أنطوان ماري بيتري (Antoine - Marie Pitri) القاضي في قنصلية فرنسا سابقًا والمندوب الفرنسي في اللجنة الدولية التي تشكلت سنة 1869 لتأسيس المحاكم المختلطة وقد كان للمسيو بيتري المذكور وللمسيو كازمير أرا اليد الطولى في تنظيم إدارة قضايا الحكومة.
رابعًا: المسيو هونوريه أوغست بونييه (Honoré Auguste Pougnet) الأفوكاتو العمومي أمام محكمة النقض والإبرام بباريس الذي انسحب بعد زمن قليل.
وقد عين هؤلاء الأربعة بصفة مؤقتة في سنة 1875، وفي يناير سنة 1876 أي في الفترة التي انقضت بين حفلة افتتاح المحاكم المختلطة وبين انعقاد جلساتها الأولى صدر دكريتو خديوي تاريخه 27 من الشهر المذكور قضى بتأييد تعيين هؤلاء المستشارين وبتحديد اختصاصات اللجنة.
وديباجة هذا الدكريتو لا تخلو من الفائدة التاريخية، وقد تنوه فيها بالقضايا التي كانت معلقة بين الحكومة والأجانب وهي التي كلفت اللجنة بفحصها.
على أن السبب الخاص الذي دعا إلى إنشاء تلك الهيأة الجديدة كان أبعد مدى وشاملاً للمستقبل والماضي معًا.
هذا السبب يرجع إلى تطبيق المادة العاشرة من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة لأنها قضت بأن الحكومة ومصالحها ودوائر سمو الخديوي وأفراد عائلته يكونون خاضعين لقضاء هذه المحاكم في المنازعات مع الأجانب.
والحق يقال إن المحاكم المختلطة ولو أنها تأسست على نظام مأخوذ جوهره من القانون الفرنسي إلا أنها اضطرت أن تحيد عن هذا القانون فيما يتعلق بالمنازعات بين الحكومة المصرية والأجانب، وقد استعيض عن النظام الفرنسي الذي يقضي بإيجاد محاكم إدارية بالنظام الإيطالي الذي يقضي بطرح مثل هذه المنازعات أمام المحاكم العادية، وقد تحددت هذه الطريقة في المادة (11) من لائحة الترتيب، وهذه المادة مستمدة من القانون الإيطالي الصادر في 20 مارس سنة 1865، وبذلك أصبحت هذه المحاكم المشكلة من قضاة أغلبهم أجانب ترشحهم الدول صاحبة الامتيازات مختصة بالفصل في القضايا القائمة بين الحكومة المصرية والمصالح ودوائر سمو الخديو وأفراد عائلته وبين الأجانب التابعين للدول المشار إليها، ولا يصعب علينا والحالة هذه أن نتبين مخاوف الحكومة وقتئذٍ من حيث نتيجة تلك المنازعات، فكان من الطبيعي أن تقدر الحكومة أهمية الدفاع عنها أمام القضاء المختلط وخطورة هذا الدفاع.
ويقيم من ثنايا ديباجة دكريتو سنة 1876 إن الدوائر الرسمية كانت توجس خيفة من الحالة الجديدة فقد جاء في هذه الديباجة ما يأتي:
وحيث إن الحكومة أصبحت بمقتضى (المادة العاشرة) من لائحة ترتيب المحاكم المختلطة، خاضعة للمحاكم الجديدة في معاملاتها القضائية مع الأجانب وأنه يتعين أن يكون الدفاع عنها أمام هذه المحاكم قائمًا على أساس متين.
وحيث إنه قد أنشئت لجنة لهذا الغرض مشكلة من كل من المسيو كازمير أرا والمسيو، إدوارد كلبر والمسيو أنطوان ماري بيتري، والمسيو هونوريه أوغست بونييه.
وحيث إنه في إدارة صوالح الحكومة القضائية لا يقل أمر اجتناب القضايا أهمية عن الدفاع فيها إذا لم يمكن اجتنابها.
وحيث إنه والحالة هذه يتعين تكليف مستشاري الحكومة علاوة على الاستشارات بالحضور عن الحكومة أمام المحاكم والدفاع عنها في القضايا إلخ.
وإذ قد أصبحت السلطة التنفيذية خاضعة للسلطة القضائية في الأمور الماسة بحقوق الأفراد زعمًا أو حقًا بسبب عمل من أعمال الإدارة فصار من الضروري إيجاد هيأة مشابهة للنظام الإيطالي المعروف باسم avvocatura erariale يعهد إليها في الدفاع عن الحكومة أمام القضاء.
وبالنظر إلى المستوى العالي الذي وضعت فيه المحاكم المختلطة وإلى تشكيلها الدولي وإلى الصعاب الناشئة عنه اضطرت الحكومة إلى وضع هيأة الدفاع عنها في مرتبة معادلة وإلى جعل تشكيلها مماثلاً لتشكيل المحاكم التي كلفت هذه الهيئة بالمرافعة أمامها.
ويؤخذ في الواقع من نصوص الدكريتو ومن قرار تنفيذه الصادر في ذات التاريخ من وزير الحقانية (رياض باشا) بمقتضى أمر كريم من سمو الخديو كما يؤخذ من قيمة المرتبات المخصصة لمستشاري الحكومة إن هؤلاء المستشارين جعلوا مماثلين من حيث الدرجات والمرتبات لمستشاري محكمة الاستئناف المختلطة وهم الذين كانوا في ذاك العهد في أعلى درجات الوظائف العمومية بعد الوزراء.
وقد كان هؤلاء المستشارون الأجانب يوظفون كقضاة المحاكم المختلطة بعقد لمدة خمس سنوات وهي المدة المحددة للمحاكم المذكورة وكانوا كالقضاة أيضًا يحضرون الجلسات بالاسطمبولية والطربوش والشارات الرسمية أعني الوسام والرصيعة [(3)]
ولم تقف الحكومة عند هذا الحد فقد جاء في ديباجة الدكريتو الصادر في سنة 1876 ما يأتي:
وحيث إن مستشاري الحكومة لا يتسنى لهم القيام بما عهد إليهم من الأعمال بصفة مرضية إلا إذا كان يعطي لهم ملء الاستقلال الشخصي.
وحيث إنه يتعين إذن جعل لجنة المستشارين هيأة مستقلة إلخ لذلك فصلت اللجنة عن الإدارة الحكومية العامة وجعلت هيأة مستقلة تحت إدارة وزير الحقانية [(4)]، وكانت تخاطب الوزارات ومصالح الحكومة بوساطة هذا الوزير، أما الهيئات القضائية فقد كانت اللجنة تخاطبها مباشرةً [(5)].
وكانت اللجنة حائزة لأتم ما يكون من الاستقلال من وجهة أعمالها الداخلية فكان يرأسها أحد المستشارين شهريًا وبالتناوب [(6)]، وهذا الرئيس كان يمضي المكاتبات ويراقب توزيع الأعمال وكان له بوجه عام أن يتخذ الإجراءات اللازمة لتنظيم أعمال الإدارة [(7)]، على أن الرئيس لم يكن له حق التقدم على زملائه ولم يكن له حق إبداء الرأي في قرارات اللجنة إلا في حالة تساوي الأصوات [(8)].
وقد وضع نظام دقيق يكفل لكل مستشار حرية تصرفه الشخصي مع المحافظة على التضامن بين الجميع، فكل مستشار كان مقررًا للمسألة التي كانت تحال عليه، وإذا كانت المسألة من النوع القضائي أو كان موضوعها إحدى القضايا القديمة التي كانت مرفوعة بواسطة القنصليات فالمقرر كان يحرر صيغة الرأي المتفق على إبدائه بعد المداولة مع باقي المستشارين وكان يوقع عليه مع الرئيس [(9)].
أما إذا لم تكن المسألة من النوع القضائي فكان الرأي يحرر بمعرفة المقرر ويوقع عليه من أعضاء اللجنة جميعًا [(10)]، وفي حالة ما يكن الرأي بالإجماع فقد كان محتمًا ذكر رأي الأقلية في المحضر مع بيان الأسباب التي ارتكنت عليها [(11)].
ولما كان يقتضي الحال متابعة إحدى المسائل أمام اللجان أو المحاكم أو محكمة الاستئناف فكان المقرر يكلف بها ولكن زملاءه كانوا يقومون بمساعدته في الجلسة في كافة الأحوال التي كان يرى فيها ضرورة هذه المساعدة بالنسبة لظروف القضية، وبعد أن تحصل مداولة خاصة في الأمر [(12)]، وكان مصرحًا للجنة أن تستعمل في المكاتبات الرسمية اللغة الفرنسية أو اللغة الإيطالية [(13)]، ولم يكن اختصاص أعضاء اللجنة يقف عند حد المرافعة عن الحكومة أمام المحاكم بل أنهم كانوا المحامين المستشارين للحكومة كما كانوا محاميها المترافعين.
والمادة الثانية من دكريتو سنة 1876 تقضي في هذا الصدد بأن اختصاصات أعضاء اللجنة كهيئة استشارية هي إبداء آراء مبنية على الأسباب القانونية المحضة بشأن وثائق الالتزامات والعقود ومقاولات الأشغال العمومية وغيرها مما يرتبط بمصالح الدولة المالية ويكون مدعاة للتقاضي وبوجه عام بشأن أي مسألة أخرى ترى الحكومة عرضها عليها لأجل درسها.
وبالرغم من أن هذه الاختصاصات كانت واسعة بهذا المقدار فإن موظفي اللجنة كانوا قليلين جدًا فاللجنة لم يكن لها من المساعدين سوى نائب أو اثنين مكلفين على الأخص بمتابعة الإجراءات أمام المحاكم [(14)]، وكذلك لم يكن للجنة من العمال الإداريين والكتبة سوى سكرتير وسكرتير مساعد وبعض المستخدمين [(15)]، وكان من المحتم أن النواب أيضًا يكونون من الأجانب الحائزين للشروط القانونية الواجب توفرها في بلادهم للمرافعة أمام المحاكم أو للتوظف في القضاء [(16)].
وإذا شئتم أن تكونوا لكم فكرة محسوسة عن الدائرة الضيقة التي كانت تعمل فيها تلك اللجنة القديمة فما عليكم إلا التوجه إلى وزارة الحقانية فإنكم تجدون على يسار المدخل في حديقة الوزارة بناءً صغيرًا لا يزال باقيًا إلى الآن وفيه بعض حجرات قليلة وهذا البناء كان مقر لجنة مستشاري الحكومة من سنة 1876 لسنة 1880.
ثانيًا: إدارة قضايا لحكومة في سنة 1924:
مضى نصف قرن والشجيرة مدت جذورًا عميقة ضخمة، وقد نمت نموًا عظيمًا، ونبتت لها فروع متعددة، ولا أظن مصلحة من مصالح الحكومة نمت مثل هذا النمو الهائل وهاكم بعض إحصائيات وبعض بيانات:
إن إدارة قضايا الحكومة مكونة اليوم من ثمانية مستشارين ملكيين وخمسة مستشارين ملكيين مساعدين وسبعة نواب أول وأحد عشر نائبًا وستة وأربعين محاميًا وأربعين مندوبًا والإدارة تشمل أيضًا فئة من العمال الكتابيين لا يقل عددهم عن تسعة وستين مستخدمًا وميزانية إدارة القضايا كما يتضح من أرقام سنة 923 - 924 مقدرة بمبلغ 90799 جنيهًا مصريًا.
وفي سنة قضائية واحدة هي سنة (1922 - 1923) مثلت إدارة القضايا المصالح العمومية أمام المحاكم في 9362 قضية منها 1179 قضية أمام المحاكم المختلطة و8183 قضية أمام المحاكم الأهلية.
أما العمل القانوني الإداري الذي قامت به إدارة القضايا من تحضير العقود أو مراجعتها من حيث الشكل القانوني ومن إبداء الفتاوى للمصالح فلا يقل عن العمل القضائي بل ربما زاد عليه، وليس في وسعي إعطاء إحصائيات كاملة واضحة ولكن رغبةً في أن يكون لديكم فكرة تقريبية عن هذا النوع من العمل أقول إن أقلام القيد في أقسام القضايا السبعة وفي نيابة قضايا الإسكندرية تقيد سنويًا مكاتبات لا يقل عددها عن المائة وخمسين ألفًا بين صادرة وواردة، ودفترخانات هذه الأقسام تنشئ سنويًا من عشرة آلاف إلى خمسة عشر ألف دوسيه وهذه المجموعات الهائلة من الأوراق ثلثاها على الأقل نتيجة العمل القانوني الإداري الذي حدثتكم عنه، ومئات الآراء القانونية التي تصدر يومًا من أقسام قضايا الحكومة لا تستدعي كلها طبعًا علمًا وبحثًا كبيرين ولكنها تشرف من الوجهة القانونية على الأعمال التي تقوم بها كافة فروع الحكومة كبيرها وصغيرها من رئاسة مجلس الوزراء إلى أصغر فرع إداري في أصغر قرية من قرى القطر.
أما العمل الذي يمكن التعبير عنه من الوجهة الفنية بأنه عمل تشريعي أعني تحضير مشروعات القوانين والمراسيم والقرارات واللوائح والمنشورات أو مراجعتها فهو أيضًا عمل جسيم جدًا، وليس في وسعي هنا أن أقدم لكم إحصائيات كاملة ويكفي أن أذكر بأن اللجنة التشريعية في سنة 1922 - 1923 قد فحصت أو راجعت خمسة وخمسين من مشروعات القوانين والمراسيم والقرارات، فضلاً عن مشروعي الدستور وقانون الانتخاب، مع العلم بأن هذا العمل لا يقدر على الأرجح بربع العمل التشريعي في إدارات قضايا الحكومة، لأن عددًا وافرًا من المشروعات الأقل أهمية لا تطرح على اللجنة التشريعية، وقد نتج عن ازدياد اختصاصات لجنة قضايا الحكومة وتكاثر العمل فيها إن اتسعت الحدود التي رسمت في الأصل لهذه اللجنة، ولو أن صورتها الأولى بقيت على ما هي عليه، فلجنة قضايا الحكومة لا زالت موجودة ولكن أعضاءها أصبحوا وكل منهم يدير قسمًا مستقلاً اختص بالأعمال القضائية لوزارة أو أكثر، ومركز هذا القسم غالبًا في إحدى الوزارات وأقسام القضايا الحالية هي:
1 - قسم قضايا وزارات المالية والمعارف والزراعة.
2 - قسم قضايا الداخلية.
3 - قسم قضايا الحقانية.
4 - قسم قضايا الخارجية.
5 - قسم قضايا الأشغال والحربية.
6 - قسم قضايا المواصلات.
7 - قسم القضايا المختلطة.
8 - نيابة قضايا الحكومة بالإسكندرية وهي تعادل في الأهمية أحد الأقسام المذكورة ويشغل أحد المستشارين الملكيين منصب المستشار لرئاسة مجلس الوزراء وهو بصفة مستديمة رئيس للجنة قضايا الحكومة.
والقانون نمرة (1) لسنة 1923 الذي نظم أخيرًا أعمال قضايا الحكومة يقضي في المادة الثالثة منه بأن تكون إدارة قضايا الحكومة هيأة واحدة ملحقة بوزارة المالية.
وهذا القانون قد حدد اختصاصات كل من المستشارين ولجنة القضايا ورئيسها بالكيفية الآتية:
كل قسم يديره مستشار ملكي [(17)] على أن لجنة قضايا الحكومة تتولى المراقبة والإشراف على موظفي إدارة القضايا وعلى أعمالهم [(18)]، وبذلك انتهى تتبع لجنة القضايا لوزير الحقانية وأصبحت مستقلة تمام الاستقلال، واللجنة مختصة أيضًا بالإفتاء في الأمور الآتية:
1 - في كل مسألة يرى أحد الوزراء استفتاءها فيها بالنظر لأهميتها أو لأنها تعني وزارتين أو أكثر، ولو أن قسمًا من أقسام القضايا أو مأمورية يكون قد تولى بحث تلك المسألة من قبل.
2 - في كل مسألة عرضتها إحدى الوزارات أو المصالح على قسم من أقسام القضايا أو مأمورية لدرسها ويرى رئيس ذلك القسم أو تلك المأمورية أن يتعرف رأي اللجنة فيها [(19)]، وينوب رئيس لجنة القضايا عن اللجنة في صلاتها بالمصالح، وتكون له الإدارة العليا على هيئة القضايا مع عدم الإخلال بسلطة المستشارين الملكيين الذين يديرون الأقسام المختلفة وبالاختصاصات المخولة للجنة نفسها طبقًا للأحكام المتقدمة [(20)].
وأهم ما أتى به القانون نمرة (1) الصادر في سنة 1923 أنه صبغ بالصبغة الرسمية الطور النهائي الذي وصلت إليه إدارة قضايا الحكومة من حيث تشكيلها ونظام موظفيها، وقد تم هذا التطور بشكل ظاهر ملموس، ففي الأصل وفي السنوات الأولى من نشأتها كانت إدارة قضايا الحكومة مشكلة من رجال قانون أوروبيين ليس إلا، وقد انقضى أكثر من أربعين سنة كانت فيها وظائف المستشارين والنواب وقفًا على الأجانب ما عدا بعض استثناءات نادرة جدًا، ومعظم هؤلاء المتشرعين الأجانب كانوا فرنساويين وإيطاليين وبصفة خاصة من أهالي جزيرة كورسكا (Corses) أو من مقاطعة البيامونتيه (Piemontai) وهم مشهورون بالصلابة وحب المناضلة ولا يخلون من المهارة السياسية، وممن شرفوا إدارتنا رجال أمثال بيتري وروكاسيرا وموريوندو وبرناردي.
حصل بعد ذلك أن دخل العنصر الإنكليزي في اللجنة وأدخل معه فيها معلومات من الفائدة بمكان في بعض المسائل الإدارية والتشريع الجنائي، وكان هذا العنصر بمثابة حلقة اتصال بكبار الموظفين البريطانيين [(21)].
ولكن حدث في وقت من الأوقات كما سنبينه فيما يلي أن اجتمع تحت إدارة مستشاري الحكومة الأجانب ونوابها الأجانب أيضًا عدد من رجال القانون المصريين وهذا العدد أخذ يتزايد شيئًا فشيئًا في كل قسم من الأقسام التي أنشئت فيما بعد ونظرًا لعدم وجود وظائف فنية مناسبة أدرج هؤلاء الموظفون في الوظائف الكتابية العامة أعني في وظائف الكتبة ووكلاء الأقلام ورؤساء الأقلام ووكلاء الإدارات ونظار الإدارات ثم أنشئ فيما بعد عدد قليل من وظائف نواب القضايا لمكافأة بعض الموظفين الأقدمين في الخدمة الذين استحقوا هذه الترقية، وقد روعي جعل تلك الوظائف من فئة مخصوصة لتمييزها عن وظائف النواب التي كانت مقصورة على المساعدين الأجانب للمستشارين.
وأصبحت إدارة قضايا الحكومة تحت إدارة المتشرعين الأجانب وبمساعدة موظفين فنيين من المصريين ازداد عددهم على توالي الأيام بمثابة مدرسة نشأ وتدرب فيها عدد وافر من الشبان المصريين الذين شغلوا فيما بعد أعلى المناصب في الإدارة والحكومة وكثير من رؤساء مجلس الوزراء والوزراء قد بدأوا حياتهم الإدارية في أقسام القضايا [(22)].
على أن الدرجات الإدارية التي كان يوضع فيها الموظفون الفنيون من المصريين لم تكن بالبداهة أمرًا مألوفًا، ولكن اقترحت في لجنة الامتيازات إصلاحًا عموميًا مبنيًا على فكرة تنظيم هيئة فنية خاصة لإدارة قضايا تكون مماثلة (كما هي الحالة في إيطاليا) بهيئة أعضاء النيابة وهي فئة أخرى من محامي الحكومة ينبئ تاريخ إنشائها في فرنسا أنها كانت تدافع أيضًا في قضايا الحكومة المدنية وإن كانت تقتصر الآن على المرافعة في القضايا الجنائية.
والقانون نمرة (1) لسنة 1923 قد أدخل هذا الإصلاح إذ جاء في المادة السادسة منه ما يأتي:
(تؤلف إدارة القضايا من المستشارين الملكيين ومساعدي المستشارين الملكيين يعاونهم الموظفون الفنيون الآتي بيانهم:
- النواب الأول.
- النواب.
- المحامون.
- المندوبون.
ويسوي هؤلاء الموظفون الفنيون فيما يتعلق بالمرتبة والمرتبات برجال النيابة الأهلية، وذلك بحسب ما يقرره مجلس الوزراء من القواعد بناءً على عرض وزير المالية متفقًا مع وزير الحقانية ويكون في كل قسم أيضًا موظفون للأعمال الكتابية.
وفي هذا الترتيب الجديد تلاشت وظائف نواب المستشارين أو بعبارة أخرى أصبحوا مستشارين ملكيين مساعدين، على أنهم يشغلون منصبًا أعلى فهم يعينون الآن بمرسوم ويمكنهم القيام مقام المستشارين سواء في لجنة قضايا الحكومة التي يكونون حينئذٍ أعضاء فيها أو في اللجنة التشريعية وفي كافة اللجان الإدارية أو التأديبية التي يكون مقررًا وجود مستشار ملكي بين أعضائها.
ولما إن كان إصلاح هيئة إدارة القضايا قد تم في الوقت الحاضر الذي انتقلت فيه أعمال الحكومة إلى أيدي المصريين فالنتيجة هي أن الموظفين الأجانب لا يكون لهم في إدارة قضايا الحكومة في أول إبريل المقبل إلا نصف وظائف المستشارين الملكيين ووظيفة مستشار ملكي مساعد واحدة ووظيفة نائب أول واحدة وليس لهم أي وظيفة أخرى في سلك الوظائف الفنية ويحتمل خروج هؤلاء الأجانب القلائل بالكلية بعد مضي ثلاث سنوات.
ثالثًا: اتساع إدارة قضايا الحكومة في الفترة بين سنة 1876 وسنة 1924:
أما الأسباب التي أدت إلى اتساع نطاق الأعمال في إدارة قضايا الحكومة هذا الاتساع العظيم فأنى سأجتهد في استقرائها بين ثنايا تاريخ الإدارة المصرية ونفسية الشعب المصري.
1 - اتساع أعمال الدفاع أمام المحاكم:
يؤخذ من إحصائية السنة الأولى القضائية للمحاكم المختلطة (سنة 1876 - 1877) إن عدد القضايا المدنية في تلك السنة بلغ 10113 قضية بينما أن عدد تلك القضايا في سنة 1922، وسنة 1924 وصل إلى 70333 قضية وبديهي أن هذه الزيادة ترجع إلى زيادة عدد الأهالي ونمو الثروة العمومية إلخ.
وهذه الأسباب نفسها تؤدي أيضًا إلى ازدياد عدد القضايا الخاصة بالحكومة والموكول الدفاع فيها أمام تلك المحاكم إلى إدارة القضايا على أنه لا يمكن القول بأن قضايا الحكومة كانت دائمًا تزداد بنفس النسبة التي كان يزداد بها عدد القضايا في القطر المصري وبالعكس لما حصلت تصفية القضايا العديدة التي كانت قائمة بين الحكومة أو دوائر الأمراء وبين الأجانب في السنين الأولى لإنشاء المحاكم المختلطة أصبحت نسبة الزيادة في قضايا الحكومة أقل من ذي قبل [(23)].
وفي الواقع أن واجب الدفاع عن صوالح الحكومة المصرية أمام المحاكم المختلطة أصبح اليوم أقل صعوبة مما كان يتوقع عند إنشاء تلك المحاكم.
وفي وسعي أن أكرر هنا رأيًا سبق أن أبديته منذ اثني عشرة سنة في بحث عن المحاكم المختلطة [(24)].
قلت إن المحاكم المختلطة لم تكن على الإطلاق محاكم قنصلية موحدة كما كانت تريد أن تعتبرها الدول صاحبة الامتيازات، فإن هذه المحاكم قد فطنت إلى واجبات العدل شأن الهيئات القضائية فأصبحت بفضل هذا التأثير المحمود محاكم مصرية بالمعنى الصحيح وأثبتت أن تتويج أحكامها باسم سمو الخديوي لم يكن مجرد مسألة شكلية وكذلك الحال في قضايا الحكومة فإن أولئك القضاة الأوروبيين وعلى الأخص من كان منهم ذا تربية لاتينية كانوا يأتون من بلادهم باسمى فكرة عن الحكومة وطبيعتها وما لها من الحقوق وبذلك كانوا يسهلون علينا مهمة الدفاع عن الحكومة.
على أنا كثيرًا ما اضطررنا إلى الجهاد العنيف في ميدان المحاكم المختلطة سواء لتضييق دائرة رقابة تلك المحاكم على الأعمال الإدارية المنصوص عليها في المادة (11) من لائحة الترتيب توصلاً إلى المحافظة على سلطة المحكمة المطلقة المشروعة أو لتخفيف وطأة القيود العديدة الناشئة عن الامتيازات رغبةً في تمكين الحكومة من زيادة إيرادات الضرائب ومن توسيع نطاق الأعمال العمومية أو لصيانة الخزانة العامة من مناورات قضائية كان يقوم بها بعض الأفاكين وخربي الذمة ومما يحسن ذكره أن تكاثر اللوائح الإدارية التي تسري على الأجانب بمقتضى دكريتو 31 يناير سنة 1889 المصدق عليه من الدول صاحبة الامتيازات كان من ورائه زيادة العبء على إدارة القضايا إذ أصبحت مكلفة بتمثيل الحكومة كمدعية بحق مدني في قضايا المخالفات.
وهناك نظام قضائي أكثر أهمية كان له نصيب وافر في توسيع دائرة أعمال الدفاع عن الحكومة أمام القضاء ففي سنة 1883 أنشئت المحاكم الأهلية على أساس مماثل للمحاكم المختلطة وقد خولت هذه المحاكم أيضًا حق النظر في القضايا القائمة بين الحكومة أو دوائر الأمراء وبين الأهلين فكان من اللازم والحالة هذه تنظيم الدفاع عن الحكومة أمام هذه المحاكم ولكن هل كان ممكنًا أن يعهد في هذا الدفاع إلى لجنة قضايا الحكومة المشكلة من متشرعين أجانب يجهلون اللغة العربية وهي اللغة الرسمية للمحاكم الجديدة ؟ كان يظهر أن هذا يصعب تحقيقه ولكنه تحقق فعلاً فإنه يتضح من ديباجة الدكريتو الصادر سنة 1884 تنظيم أقلام قضايا الحكومة أن غرض المشرع كان توحيد نظام الدفاع أمام المحاكم المختلطة والمحاكم الأهلية [(25)]، ولكني أميل إلى الاعتقاد بأن هذا العمل كان مبنيًا على سبب آخر هو الثقة التي نالتها إدارة قضايا الحكومة والتي حصل الاعتراف بها صراحةً بمناسبة إصدار دكريتو 16 أكتوبر سنة 1880 الذي رتب لأول مرة أقسام قضايا الحكومة [(26)] بيد أن لجنة القضايا المشكلة من أجانب لم يكن في وسعها إلا الإشراف على الدفاع عن الحكومة أمام المحاكم الأهلية وكان عليها إذن أن تعين مصريين تقوم بتدريبهم على الإجراءات القضائية والمرافعات وبذلك بدأ دخول العنصر المصري في إدارة القضايا وقد ازداد هذا العنصر تدريجًا حتى أوجب تغيير النظام الأول لإدارة القضايا تغييرًا كليًا.
2 - اتساع العمل الإداري:
زاد العمل الإداري في أقسام القضايا زيادة أكبر من زيادة الأعمال القضائية ويرجع سبب هذه الزيادة إلى أسباب بعضها مماثل وبعضها مغاير للأسباب السابق بيانها ومعلوم أن من اختصاصات أقسام القضايا بمقتضى عبارة الدكريتو الصادر سنة 1876 إبداء الآراء المبنية على الأسباب القانونية المحضة بشأن وثائق الالتزامات والعقود ومقايسات الأشغال العمومية وغيرها مما يرتبط بمصالح الحكومة المالية ويكون مدعاة للتقاضي وبوجه عام بشأن أي مسألة أخرى ترى الحكومة عرضها عليها لأجل درسها.
ومما يجدر ملاحظته أن مكانة أعضاء لجنة قضايا الحكومة وخبرتهم في النظم الإدارية الأوروبية وحيادهم التام في المشاكل السياسية، كل هذا أكسبهم ثقة مصالح الحكومة واجتذب لهم عطفها واعتبارها وكان من وراء ذلك أن اتسع نطاق الآراء التي تبديها أقسام القضايا بحيث أصبح شاملاً لكل فرع من فروع الإدارات العمومية بما فيها مسائل الأحوال الشخصية وهي تبدو لأول وهلة أنها ليست مما يوكل أمر النظر فيها إلى متشرعين أوروبيين.
ولما كانت المهمة القانونية الملقاة على عاتق أقسام القضايا قد بلغت هذا الحد كان من المحتم زيادة عدد الموظفين الفنيين المصريين الموجودين تحت إدارة المستشارين في مختلف الأقسام وزيادة عدد الأقسام المذكورة أن المصلحة العامة تقتضي عمل مجموعة للآراء التي أبداها مستشارو قضايا الحكومة مدة نصف قرن في مختلف المسائل الإدارية المتضمنة مبادئ هامة، فإن مجموعة كهذه لو نشرت لكانت مرشدًا قيمًا لرجال الإدارة ولجمعت بين دفتيها القواعد الصحيحة للقانون الإداري المصري.
وهناك انتقاد يمكن توجيهه إلى فتاوى إدارة القضايا فإنا والحق يقال كنا نتجاوز أحيانًا حدود مهمتنا القانونية بأن كنا نضمن تلك الفتاوى عدا الأسباب القانونية المحضة التي ننوه بها في لائحتنا النظامية أسبابًا أخرى تمس موضوع المسألة الإدارية المطروحة علينا.
ولكن هي الضرورة كانت تلجئنا إلى هذا فإنه لم يكن في وسعنا غض النظر بالكلية عن أغلاط واضحة كان يوشك أن يرتكبها ضد المصلحة العامة إداريون جاءوا حديثًا من إنجلترا تعوزهم الخبرة عن أحوال أهالي البلاد أو بعض رجال الإدارة المصريين ممن كنا نتوسم الريبة في إجراءاتهم ومن جهة أخرى لم يكن في وسعنا أن نتجنب دائمًا الإجابة على استفتاء بعض المديرين المجتهدين الذين كانوا يلجأون إلينا من مراكز مديرياتهم القاصية متلمسين لدينا رأيًا يخرجهم من مآزق إدارية وقعوا فيها وفضلاً عن ذلك فإن مصالح الحكومة نفسها كثيرًا ما دفعت أقلام القضايا إلى تعدي اختصاصها بما كان لها من فرط الثقة فيها أو لكونها غالبًا ما تخلط بين الوجهتين القانونية والإدارية للمسألة الواحدة.
على أن آراء قسم القضايا لم تكن مقيدة للحكومة وكنا نتوخى دائمًا في بسط ملاحظاتنا إلى المصالح التمييز بين الوجهة الإدارية والوجهة القانونية.
ولقد سبق إلى القول بأن جميع فروع الحكومة كانت تتطلب مساعدة أقسام القضايا حتى أن مسائل تأديب الموظفين رُئي من الضروري اشتراك أقلام القضايا فيها وفي الواقع تنص اللوائح المعمول بها على جلوس المستشار الملكي أو مساعده في مجالس التأديب العليا وأحيانًا يرأس المستشار الملكي المساعد مجلس التأديب الابتدائي [(27)].
وكذلك كانت لجنة القضايا تشترك بواسطة عضو أو أكثر من أعضائها في أكثر المجالس واللجان المؤقتة أو المستديمة مصرية كانت أو دولية وسواء أنشئت لمساعدة الإدارة في بعض الأعمال أو في إيجاد حل لمسائل مخصوصة أو لتحضير مشروعات إصلاحية.
3 - اتساع الأعمال التشريعية:
وأهم اللجان التي اشتركت فيها إدارة القضايا وتشترك فيها الآن هي اللجنة الاستشارية للتشريع ولمعرفة أصل إنشاء هذه اللجنة يتعين الرجوع إلى القانون النظامي الصادر في سنة 1883 الذي أدخل لأول مرة في مصر نظامًا مشابهًا للنظام البرلماني.
فالدكريتو أو القانون الصادر في أول مايو سنة 1883 قد أنشأ بجانب مجالس المديريات ومجلس الشورى والجمعية العمومية أداة أخرى سماها مجلس شورى الحكومة وقد صدر بتنظيم هذا المجلس أمر عالٍ بتاريخ 22 سبتمبر من السنة عينها.
وقد نص عن تقسيم هذا المجلس إلى قسمين (قسم تحضير القوانين واللوائح وعليه تحضير وتحرير مشروعات القوانين والأوامر المتعلقة بالمصلحة العمومية)، (وقسم الإدارة وعليه أن يعطي رأيه في كافة المسائل المتعلقة بالمصلحة العمومية وفي غير ذلك من المسائل التي تبعثها إليه نظار دواوين الحكومة للبحث فيها)، وقد نص أيضًا عن تشكيل مجلس الحكومة من خمسة أعضاء دائمين يعينهم سمو الخديوي ومن المستشار المالي ومن وكلاء النظارات الثمانية ومن عدد وافر من كبار الموظفين وأخيرًا من رؤساء أقسام قضايا الحكومة الثلاثة.
ولا شك في أن إنشاء مجلس شورى الحكومة هذا كان إصلاحًا كبير الأهمية وقد نسج في إنشائه على منوال الهيئات المماثلة في البلاد الأوروبية وكان إتمام تشكيله يؤدي إلى فتح صحيفة جديدة في تاريخ إدارة القضايا لأنه كان من شأنه أن يقوم مقام إدارة القضايا في جزء عظيم من الأعمال الموكولة إليها والتي كلفت بعدئذٍ كما سنبينه فيما يلي.
ولكن أسبابًا سياسية حالت دون إتمام هذا الإصلاح فإن وزارة الخارجية البريطانية عارضت في إنشاء مجلس شورى الحكومة، ولذلك صدر دكريتو بتاريخ 13 فبراير سنة 1884 بإيقاف أعماله.
على أن إلغاء هذه الأداة الإدارية لم يتكفل بإلغاء الضرورة التي أحوجت إليها ولا شك في أن الحاجة إليها كانت ماسة كل المساس من حيث الأعمال التشريعية بدليل أن نفس الدكريتو الصادر بالإلغاء قضى بطلب مساعدة موظف اختصاصي في تلك الأعمال.
هذا الموظف الاختصاصي كان البارون إدارود كلر (Edward Keller) وهو نفس الشخص الذي نجده بين المؤسسين الأربعة للجنة مستشاري الحكومة.
والمادة الثانية من الدكريتو الصادر بإيقاف عمل مجلس شورى الحكومة قضت بما يأتي:
(ثانيًا الدكتور إداورد كلر بصفته مستشارًا للحكومة ملحق برئاسة مجلس نظارنا، ويكلف بتحرير مشروعات القوانين، والدكريتات واللوائح.
ولكن ظهر بعد زمن قصير أن عبء هذه الوظيفة كان ثقيلاً على كاهل شخص بمفرده وربما كان في ذلك أيضًا ما يدعو للشبهة خصوصًا وأن هذا الشخص كان تابعًا لدولة أجنبية.
وفعلاً لم يمضِ شهران على ذلك حتى رئي الرجوع إلى الفكرة الأصلية بإنشاء مجلس شورى للحكومة بشكل مقتضب أو بعبارة أخرى غير ظاهر فقد أعيد تنظيم قسم تحضير القوانين واللوائح والحق بلجنة قضايا الحكومة مع تعديل في تشكيله وبذلك تألفت اللجنة الاستشارية للتشريع وهو الاسم الجديد الذي أعطي للجنة التي بعثت من رفات مجلس شورى الحكومة، قضت المادة (12) من الأمر العالي الصادر في 20 إبريل سنة 1884 بتنظيم إدارة قضايا الحكومة بما يأتي:
(لا يجوز تقديم أي قانون أو أمر عالٍ أو لائحة لمجلس النظار إلا بعد النظر فيها بمعرفة القضايا بالاشتراك مع وكيل نظارة الحقانية ووكيل النظارة ذات الشأن ومن يعينه المجلس من موظفي الحكومة وتقتصر اللجنة الاستشارية التشريعية المؤلفة على هذا النمط على وضع الصيغة القانونية للمشروع المعروض عليها وبعد أن تتحقق مطابقته للقوانين المرعية الإجراء.
مضت اثنتا عشرة سنة من سنة 1884 إلى سنة 1896 ولجنة التشريع باقية بتشكيلها الأصلي ولكن سياسة الاحتلال نمت في خلال ذلك وتأيدت فيما يتعلق بالمواد القانونية بازدياد سلطة المستشار القضائي في وزارة الحقانية فكان من الطبيعي أن المستشار القضائي يمد دائرة نفوذه على الفرع المخصص لمراجعة مشروعات القوانين وقد تم له ذلك بحكم الدكريتو الصادر في 25 يناير سنة 1896 فقد قضت المادة الأولى من الدكريتو المذكور بأن (اللجنة الاستشارية لسن القوانين واللوائح المنصوص عنها في المادة الثانية عشرة من الأمر المشار إليه (أي الأمر الصادر في 20 إبريل سنة 1884) تشكل بالكيفية الآتية:
(ناظر الحقانية - رئيس - المستشار القضائي - أحد المستشارين الخديويين - ناظر مدرسة الحقوق الخديوية - وكيل النظارة المقدمة منها مشروع القانون أو اللائحة أعضاء - ولمستشار الداخلية الحق في الحضور كلما رأى أن لهذه النظارة علاقة بالمشروع وللجنة في كل الأحوال أن تستدعي باقي أعضاء لجنة قضايا الحكومة).
وبهذه الكيفية تحولت لجنة التشريع من أداة في إدارة قضايا الحكومة إلى لجنة من لجان وزارة الحقانية كان يجلس فيها كثير من الموظفين البريطانيين ومستشار واحد من لجنة القضايا ولكن بعد مضي ست سنوات أخذت لجنة القضايا بثأرها فإن الدكريتو الصادر في 17 مايو سنة 902 الذي أعاد تنظيم اللجنة الاستشارية وهو الدكريتو المعمول به الآن قد دعا جميع أعضاء لجنة القضايا إلى الاشتراك في أعمال لجنة التشريع وألغي اشتراك وكيل الوزارة صاحبة الشأن ومستشار وزارة الداخلية [(28)].
ويتضح مما تقدم أن لجنة قضايا الحكومة كانت في ذلك العهد تكون نصف أعضاء اللجنة الاستشارية وقد ازدادت هذه النسبة بعد سنين قلائل بازدياد عدد المستشارين الخديويين حتى أصبحوا هم الأغلبية في اللجنة.
وإذا لاحظتم ما هو معهود في محامي الحكومة وهم مستشارو أقسام القضايا من الميل الشديد إلى المناقشة ولا أقول من العلم والخبرة فإنكم تتبينون ماهية نفوذهم في اللجنة التشريعية.
ومما يجب معرفته أن دكريتو تنظيم هذه اللجنة يجعل الحكومة حرة في عرض مشروعات القوانين عليها ولكنها في الواقع تعرض عليها كافة مشروعات القوانين والدكريتات التي فيها شيء من الأهمية.
وهنا يحسن استقصاء ما للجنة الاستشارية من الاختصاص فإن ذلك لا يخلو من الفائدة خصوصًا وأن الرأي العام بل والإدارة نفسها كثيرًا ما أشكل عليها أمر تحديد هذا الاختصاص فتارة كانت تعترف للجنة بسلطة تشريع حقيقية وطورًا كانت تقتصر اختصاصها على تصحيح العبارات القانونية المستعملة في مشروعات القوانين وفي أوقات المشاكل السياسية كان يهمس أحيانًا بأن اللجنة قد تستعمل وظيفتها على حسب مقتضيات المصلحة السياسية وبهذا تكون ستارًا للوزراء الذين لا يجسرون على أن يتحملوا مباشرة مسؤولية بعض الإجراءات وبديهي أن هذا التعريض لا أساس له بالكلية ولكن من المؤكد أن عمل اللجنة ذو أهمية كبرى.
سبق لنا القول بأن الدكريتو الصادر بإنشاء اللجنة يقضي بأن يقتصر على وضع المشروع في الصيغة القانونية إلا أن عبارة الصيغة لا يمكن بالطبع أن يفهم منها مجرد الألفاظ أو التحرير القانوني أعني استعمال العبارات المخصصة قانونًا للتعبير عن فكرة المشرع فإن هذا العمل يقوم به عادةً قسم القضايا الذي ساعد المصلحة في تحضير المشروع وغير معقول في الجهة الأخرى تكليف لجنة لما ما لها من الأهمية بمراجعة الشكل فقط.
لذلك توسعنا في تأويل تلك العبارة.
كل قانون يرمي إلى تحقيق مصلحة معينة عامة أو خاصة بإعطاء هذه المصلحة صنعة (الحق) بمعنى أنه يجعلها موضوع علاقة قانونية مكفولة بعقوبة مدنية أو جنائية يحصل تطبيقها بمعرفة المحاكم.
والمصلحة العامة أو الخاصة المقصود تحقيقها هي عبارة عن موضوع القانون في حين أن العلاقة القانونية التي تنطوي عليها هذه المصلحة هي في نظرنا ما أراد الدكريتو التعبير عنه بالصيغة القانونية.
وإذن تختص اللجنة فضلاً عن مراجعة العبارات القانونية المستعملة بالنظر أيضًا فيما إذا كانت المصلحة المقصودة يمكن تحقيقها بوسائل قانونية وإذا كانت الوسائل القانونية المقترحة تتمشى مع الأغراض المتوخاة وأخيرًا إذا كانت هذه الوسائل لا تتعارض مع علاقات قانونية أخرى أعني مع حقوق منصوص عليها في قوانين أخرى ونص الدكريتو يؤيد صراحةً اختصاص اللجنة في النقطة الأخيرة إذ أنه يقضي بأن (تجعل اللجنة نصوص المشروع ملائمة للقوانين المتبعة)، وقد فسرنا عبارة (القوانين المتبعة) بأنها تقابل عبارة التشريع المعمول به وهي عبارة تشمل بالبداهة المبادئ والقواعد التي وإن لم تكن مكتوبة بالنص في القوانين إلا أنها مما يستنتجه المتشرعون في القوانين أو المبادئ القانونية العامة أو من العرف وبذلك تمكنا من الدفاع عن القانون المصري ومن ترقيته وتنسيقه باطراد مع أن هذا القانون في الفترة السياسية التي اجتزناها كانت تحوطه أخطار داهمة تهدده بالخروج عن دائرة مصريته.
هذه السلطة الواسعة التي رأينا استعمالها بدون أن نتخطى حدود مهمتنا كرجال القانون كان من شأنها إجراء تعديلات كبيرة في المشروعات التي طرحت علينا للبحث بل إلى التقرير أحيانًا بعدم إمكان قبول تلك المشروعات كلية ولم نكن نجهل دقة المسؤولية في هذا العمل، ولذلك كلما بدت لنا مسألة موضوعية هامة لها بعض لارتباط بالمسألة القانونية أو بصفة عامة وبصرف النظر عن المسألة القانونية لما أن كان يتراءى لنا ضرورة إدخال بعض تعديلات أو إضافات جوهرية كنا نقتصر على أن نعرض للوزير المسؤول عن المشروع بعض اقتراحات كان بطبيعة الحال حرًا في الأخذ بها أو عدم الأخذ [(29)].
وأثناء مراجعة مشروعي الدستور وقانون الانتخاب كثيرًا ما لجأنا إلى طريقة الاقتراحات التي أدت إلى تعديلات حصل التعليق على بعض منها بشدة في الصحافة غير أنه ليس هنا محل الكلام عنها، ولكني أقرر وأنا مرتاح الضمير أن اللجنة لما كانت تقضي بتلك الاقتراحات كان رائدها الوحيد المصلحة العامة للبلد بدون الاكتراث بما إذا كانت تقيد أو لا تقيد حزبًا سياسيًا دون حزب آخر.
4 - إدارة القضايا والامتيازات:
أن الثقة والنفوذ اللذين اكتسبتهما إدارة قضايا الحكومة في مصر يرجعان على الأكثر إلى الخطة التي رسمتها هذه الإدارة لنفسها بأن تكون دائمًا بعيدة عن كل تحزب سياسي.
على إنا إذا كنا نعطي للفظة السياسة معنى علميًا واسعًا فنعبر بها عن الاتجاه العام في تسيير دفة الحكومة بصرف النظر عن مشادة الأحزاب وجب علينا الاعتراف بأن إدارة القضايا اشتركت ولا شك في سياسة البلد لأن أعمالها تناولت أهم مسائل الحكومة.
ولا أريد الدخول هنا في تفصيلات هذا الموضوع الذي لا يخلو من لذة ولكنه لا يخلو أيضًا من دقة فاقتصر على ذكر ما كان من تأثير إدارة القضايا في تطور نظام الامتيازات.
إن إنشاء المحاكم المختلطة وأحكامها المؤسسة على حرية الرأي وصوالح البلاد والسلطة المخولة لتلك المحاكم بتطبيق القوانين الإدارية على الأجانب وبتعديل التشريع المختلط واستعمالها هذه السلطة بلا قيد وما تحصلنا عليه من موافقة الدول صاحبة الامتيازات في أمور الضرائب وغيرها كل هذا أدى في نصف القرن الأخير إلى تحور عظيم في نظام الامتيازات بمعنى أنه خفف تدريجيًا وبدرجة كبيرة من وطأة القيود والأغلال الناشئة عنها ولا نغالي إذا قلنا بأنه لا يوجد الآن في مصر إلا بقايا من نظام الامتيازات القديم.
وإدارة قضايا الحكومة قد اشتركت في هذا التطور بما قامت به من الأعمال في كافة فروعها وقد ساعدت في الوقت ذاته على تلطيف نتائج الامتيازات الأجنبية كلما كان من المتعذر التملص منها [(30)].
ولكن حصل - وهذا ما ألفت إليه أنظاركم - أن إدارة القضايا اضطرت أحيانًا إلي الدفاع عن تلك الامتيازات، ذلك لأن الامتيازات وإن كانت في الحقيقة قيدًا للتشريع والحكم إلا أنها لكونها قيدًا فهي بمثابة الحاجز والحواجز قد تفيد أحيانًا للمحافظة على التوازن ولمنع السقطات الخطرة.
وكثيرًا ما اغتبطنا بالتمسك بالامتيازات في معارضتنا بعض اقتراحات الإدارة توصلاً لمنع قرارات متيسرة أو مبتكرات لا مبرر لها.
وما أكثر ما كتب ضد الامتيازات والرأي العام الإنكليزي على الخصوص قد شدد عليها النكير وعرض على مصر تخليصها منها [(31)].
والواقع أن الامتيازات لم توقف تقدم مصر من الوجهة المدنية وربما جعلت هذا التقدم صعبًا وبطيئًا وغير مستكمل العناصر ولكن مؤرخ المستقبل يثبت ما إذا كانت الامتيازات لم تساعد هي أيضًا على إنماء روح الوطنية والحريات السياسية.
أن مآل الامتيازات إلى الزوال في مستقبل قريب فاسمحوا لي بأن أقول إنه إذا كان القصد زوالها بلا مشاغبات خطرة وبدون شروط ثقيلة وصعبة فإن الطريق الواجب سلوكه ظاهر واضح.
عندما تقتنع الدول صاحبة الامتيازات بأن مصر الحديثة أصبحت قادرة تمامًا على تطبيق المبادئ الحرة التي يشتمل عليها القانون الأهلي والدولي المتبع في الدول المتمدينة وعلى القيام بتعهداتها الدولية فإن تلك الامتيازات التي أكل عليها الدهر وشرب ستسقط من تلقاء ذاتها، فالمسألة إذن لا تتوقف إلا على أمر واحد هو الثقة السياسية، وهذه الثقة عالية في وقتنا الحاضر وكل البوادر تبعث فينا الأمل بأن هذه الثقة تتوطد على ممر الأيام وتستمر باطراد حتى تصل إلى السماك الأعزل.
5 - الأركان الأدبية والنفسية لنفوذ إدارة قضايا الحكومة:
ذكرت الأسباب التي أدت إلى اتساع نفوذ إدارة قضايا الحكومية اتساعًا كبيرًا ولكني لم أتكلم بعد عن السبب الذي هو في نظري أعظم وأهم، وكلما فكرت فيه تعروني هزة فخر وخجل واعتراف بالجميل، فلو قارنا بين هذه الهيئة المصرية وبين الهيئات المشابهة لها في البلاد المتمدينة الأخرى لألفينا فرقًا جوهريًا ألا وهو أن نفوذ هاته الهيئات ناشئ عن قوة القانون في حين أن نفوذ إدارة قضايا الحكومة المصرية هو نتيجة قوة ليست مستمدة في القانون ولو أنها لا تقل عن قوة القانون، نجد فيما يتعلق بالهيئات الأجنبية أن القانون هو الذي يبين بطريقة صريحة قاطعة الأحوال التي يتعين الرجوع فيها إلى إدارة القضايا أو مجلس شورى الحكومة لطلب الرأي أو الاستشارة وكذلك الأحوال التي تتقيد فيها الحكومة بالآراء المعطاة بل والأحوال التي تكتسب فيها تلك الآراء صفة وقوة القرارات الإدارية.
ولكن لا شيء من هذا في إدارة قضايا الحكومة المصرية فإنه بمقتضى القاعدة الأساسية التي وضعت في نظامها الأصلي سنة 1876، والتي تكرر وضعها في جميع قوانينها النظامية (عدا استثناء واحد أدخل حديثًا وسأتكلم عنه الآن) لا توجد أحوال تكون فيها الحكومة أو المصلحة ملزمة قانونًا بأن تستشير إدارة القضايا أو تعرض عليها مشروع عقد أو قانون أو مرسوم وليس ثمة مطلقًا أحوال تكون الحكومة أو المصلحة ملزمة فيها قانونًا باتباع الرأي الذي تطلبه أو بالموافقة على مشروع العقد أو القانون أو المرسوم الذي تحضره إدارة القضايا.
والقانون نمرة (1) سنة 1923 قد أدخل حديثًا استثناءً لهذه القاعدة العامة بالنص الوارد في المادة الثانية منه التي تقضي بما يأتي:
لا يجوز لإدارة أية مصلحة من مصالح الدولة أن تبرم أو تقبل أو تجيز أو تأذن بأي عقد أو صلح أو تحكيم أو تنفيذ قرار محكمين في أمر تزيد قيمته على خمسة آلاف جنيه مصري بغير استفتاء إدارة قضايا الحكومة على حكم القانون فيه، هذا إذا لم يرَ الوزير المختص غير ذلك بقرار خاص.
ويجب أن يثبت في الوثائق المتقدم ذكرها أن إدارة القضايا قد استفتت فيها.
والأصل في وضع هذا النص يرجع إلى قضية كان لها وقع كبير وهي قضية حصل فيها أن المصلحة بدون استشارة قسم القضايا قبلت ونفذت عقد تحكيم غير قانوني الأمر الذي ألحق ضررًا بليغًا بخزانة الحكومة.
على أنكم تلاحظون أن هذا النص الجديد يلزم المصلحة ولا يلزم الوزير وهو الرئيس المسؤول في الحكومة بطلب رأي القضايا في أحوال مخصوصة فهذا النص يرمي إلى غرض محدود هو منع المصلحة من الدخول بدون استشارة قضائية في تعهدات قد يترتب عليها مسؤولية مالية جسيمة بدون علم الوزير المسؤول وعلى كل حال فإن المصلحة باقية حرة في العمل برأي مستشاريها القضائيين أو عدم العمل به وهذا يؤيد القاعدة العامة التي بمقتضاها لا تكون آراء أقسام القضايا إلزامية للحكومة.
وإذا كان الأمر كما تقدم فما هي القوة المبنية على غير القانون التي تدفع المصلحة والوزراء إلى استشارة أقسام القضايا على الدوام وعلى الأخص إلى اتباع هذه الآراء واحترامها مما جعل وزيرًا من الظرفاء يسميها (الفتاوى) الصادرة من إدارة قضايا الحكومة.
قد يرجع ذلك إلى أسباب كثيرة منها كفاءة المستشارين الشخصية وضرورة الالتجاء إلى مساعدتهم والخوف من المسؤولية السائدة كما يقال - في مصالح الحكومة ولكن يلوح لي أن أسبابًا كهذه قد تكون كافية لإيجاد مثل هذا النفوذ في بلد غير مصر فلنبحث إذن عن العامل الذي اعتبره مكملاً لهذه الأسباب بل وقوامها نجده كامنًا في نفسية الشعب المصري.
هذا الشعب الذي يبدو للأجانب في المعاملات السطحية معهم بمظاهر قد تخدعهم أحيانًا عن حقيقة أمره يحمل بين جنبيه نفسًا شرقية تواقة إلى وجود من توليه ثقتها وتجعله محل أمانتها فإذا توفرت هذه الثقة وهذه الأمانة تتفتح النفس المصرية وتكشف عن مكنوناتها وتستسلم كلية وبلا تحفظ.
ولقد نجحنا في اجتذاب هذه الثقة في اكتساب هذه الأمانة.
رابعًا: مستقبل إدارة قضايا الحكومة:
تكذب النبوءات خصوصًا فيما يتعلق بالأنظمة العمومية ولا سيما في بلد كمصر تدخل اليوم فقط في الحياة الدستورية والديمقراطية لذلك أراني مترددًا في أن أختم هذه المحاضرة بالتنبؤ عما بكون مستقبل إدارة قضايا الحكومة.
ولقد يمكنني أن أقول ما عساه أن يكون هذا المستقبل إذا كانت مصر تستمر على السير كما أؤمل في طريق الرقي الذي صارت فيه قبلها الدول الحديثة ويسهل التكهن بأن الأعمال الموكولة الآن إلى إدارة القضايا ستزداد وتصبح مثقلة بالصعاب.
فإن القضايا ضد الحكومة لا بد وأن يزيد عددها وعلى الأخص في المستقبل القريب وذلك أما بسبب اتساع نطاق الأعمال العمومية التي يتطلبها البرلمان وإما بسبب الأغلاط التي يصعب تجنبها على هيئة موظفي الإدارة الذين لم يكتسبوا بعد الخبرة اللازمة، وأما بسبب روح الديمقراطية التي تستنهض أو تقوى في نفوس الأهلين شعورهم بحقوقهم وبالتالي شعورهم بواجبات الحكومة نحوهم وللأسباب عينها ستتبع دائرة الأعمال لما سميته (القسم الإداري) في إدارة القضايا ويترجح تكميله بهيئة أخرى أسميها (القسم البرلماني) تختص بالمسائل القانونية في تفسير الدستور وتطبيقه على الأخص في العلاقات بين الوزراء والبرلمان.
ولقد يلوح لأول وهلة أن وظيفة البرلمان التشريعية ستحل حتمًا محل إدارة القضايا في تحضير مشروعات القوانين ولكن المنظور غير ذلك إذا كنا نقيس بما هو جار من قديم في البرلمانات الأوربية لأنه قد ثبت بالاختبار أن البرلمانات قليلة الكفاءة بدرجات متفاوته من الوجهة الفنية في تحضير مشروعات القوانين اللهم إلا إذا كانت تلك المشروعات مما تتغلب فيه الصفة السياسية - فالبرلمان هو أولاً وقبل كل شيء هيئة سياسية وفضلاً عن ذلك فإن مشروعات القوانين التي يكون اقتراحها برلمانيًا نادرة جدًا ومصدرها الفشل في غالب الأحيان وإذن فإن عمل إدارة القضايا في هذا الفرع وإن كان يستلزم زيادة الإتقان الفني إلا أنه على الأرجح لا يكون أقل ولا أسهل مما هو عليه الآن.
على أنه إذا كان من المنتظر زيادة الاختصاصات الحالية الموكولة لأقلام القضايا فإن ذلك ليس معناه أن نظام القضايا في الحالة الراهنة سيبقى على ما هو عليه بل بعكس ذلك أن زيادة العمل ورغبة الإصلاح وهي وليدة كل نظام سياسي جديد ستؤديان إلى عمل إصلاحات وعلى الأرجح إلى توزيع اختصاصات أقلام القضايا على هيئات مختلفة وإلى إعادة نظام مجلس شورى الحكومة.
وبما أن مهمتي في مصر قاربت الانتهاء فإنه لن ينالني أسف مشاهدة هذه التجزئة التي ستصيب على الأرجح نظام إدارتنا القويم.
وإذا كان على الأقدمين واجب النصح الأبوي فاسمحوا لي أن أنتهز الفرصة في هذا المقام لأسوق كلمة إلى جميع موظفي أقلام القضايا كبيرهم وصغيرهم وإلى كل من هم الآن في الإدارة أو سوف يلتحقون بها.
اعلموا يا أصحابي أنكم تجدون في المجموعات الرسمية وفي ملفات أقلامنا ومحفوظاتها وثائق لا تخلو من الفائدة هي ثمرة علم وخبرة قدماء المستشارين الذين رحلوا ولكنهم لا تجدون فيها كنزًا ثمينًا كان ذخرًا لهم ولإدارة قضايا الحكومة وهو السر في الثقة التي حازوها وحازتها تلك الإدارة.
فابحثوا عن هذا الكنز تجدوه في نفوسكم وفي أعماق ضمائركم وفي حب مصر وطنكم الجميل - هذا الكنز هو الاستقامة والشرف.
ملاحظة:
هذه المحاضر نشرت بنصها الفرنساوي في العدد نمرة (78) من مجلة مصر الحديثة (L’Egypte Contemporaine) الصادر في شهر مارس سنة 924، وقد ألحقت بها جداول تفصيلية عن أعمال كل قسم من أقسام القضايا ونيابة قضايا الإسكندرية وكذلك اللجنة التشريعية وبعض إحصائيات بإيضاح مقدار العمل لكل فرع من فروع إدارة القضايا فنلفت إليها أنظار حضرات القراء.

المعرب
يوسف قسيس
نائب بقسم قضايا الداخلية

[(1)] ألقيت هذه المحاضرة بالجمعية الملكية للاقتصاد السياسي والإحصاء والتشريع في 29 فبراير سنة 1924.
[(2)] Cicero pro domo sua
[(3)] راجع المواد (12) و(13) و(14) من قرار 27 يناير سنة 1876.
[(4)] ومما يجدر ذكره أن الحكومة الخديوية عينت في ذاك الوقت أحد الأجانب للقيام بمساعدة وزير الحقانية في الإدارة القضائية وهذا المنصب كان على نوع ما ممهدًا لمنصب المستشار القضائي الذي تعين بعد الاحتلال وقد أسند إذ ذاك إلى المسيو هيمن الذي كان مديرًا عامًا في وزارة الحقانية بإيطاليا.
[(5)] راجع المادة (4) من دكريتو 27 يناير سنة 1876.
[(6)] راجع المادة (3) من دكريتو 27 يناير سنة 1876.
[(7)] راجع المادة الأولى من القرار الوزاري الصادر في 27 يناير سنة 1876.
[(8)] المادة (9) من القرار.
[(9)] المادة (6) من القرار.
[(10)] المادة (7) من القرار.
[(11)] المادة (8) من القرار.
[(12)] المادة (10) من القرار.
[(13)] المادة (5) من دكريتو 27 يناير سنة 1876.
[(14)] راجع المادة (6) من دكريتو 27 يناير سنة 1876 التي تقضي ضمنًا بأن النواب يماثلون النواب الأجانب في النيابة المختلطة، والمادة (16) من قرار 27 يناير سنة 1876 التي تقضي بأن النواب يلبسون في الجلسة السترة السوداء ذات الرقبة المستقيمة والطربوش.
[(15)] راجع المادة (20) وما يليها من القرار.
[(16)] راجع المادة (7) من دكريتو 27 يناير سنة 1876.
[(17)] مادة (4) من القانون نمرة (1) سنة 1923.
[(18)] المادة نمرة (10) من القانون نمرة (1) سنة 1923.
[(19)] المادة نمرة (11) من القانون نمرة (1) سنة 1923.
[(20)] المادة نمرة (11) من القانون نمرة سنة 923.
[(21)] وهذا بيان أسماء المستشارين الأجانب على قدر ما تسعه الذاكرة من المبتدأ إلى يومنا هذا:

Ara, Kelber, Pietri (Antoine - Marie) Pougnet, Cavalli, Borelli, Pietri (Tour - dan), Moriondo, Bernardi, Rocca - Serra, Schiarabati, Brunyate, Pietri (Francois), Piola Caselli, Grandmoulin, Hayter, Ross Taylor, Ward - Boys, Rossetti, Linant, de Bellefonds, Wathelet.

[(22)] نذكر هنا من أسماء رؤساء الوزارات حضرات أصحاب الدولة يوسف باشا وهبه وحسين باشا رشدي ومن الوزراء حضرات أصحاب المعالي أحمد حشمت باشا، وأحمد حلمي باشا، وأحمد طلعت باشا، وعبد الفتاح يحيى باشا، ومصطفى فتحي باشا، وكذلك المغفور له أحمد فتحي زغلول باشا وكيل وزارة الحقانية سابقًا، ونذكر أيضًا أسماء رؤساء الدوائر والمستشارين بمحكمتي الاستئناف الأهلية والمختلطة الآتين:
عبد العزيز كحيل باشا، نخلة بك المطيعي، وحسن جلال باشا، وصبحي بك غالي وقاسم بك أمين وأحمد راغب بدر باشا، ومراد وهبه بك وكذلك المأسوف عليه محمد أباظة بك وكيل عموم إدارة أملاك الميري الحرة.
[(23)] راجع تقرير رياض باشا رئيس مجلس النظار إلى سمو الخديوي السابق لدكريتو 16 أكتوبر سنة 1888 الذي أنشأ إدارات قضايا الحكومة في النظارات وقد ذكر في هذا التقرير بين الأسباب التي دعت إلى هذا الإصلاح الجديد أنه كان مرغوبًا في منع عودة القضايا العديدة التي رفعت على الحكومة في خلال السنوات الأخيرة.

[(24)]Appunti critici intorno al Tribunali Misti dell’ Egitto, No. 2 (Giurisprudenza italiana, 1910)

[(25)] حيث إنه من الضروري اتخاذ الطرق اللازمة للمرافعة عن الحكومة أمام المحاكم الأهلية الجديدة، حيث إنه يلزم أن تكون المدافعة عن كافة مصالح الحكومة إدارية كانت أو عمومية أمام المحاكم المذكورة أو المحاكم المختلطة على وتيرة واحدة، ونظرًا للمنفعة التي تعود من المداولة في أساسات، ومستندات هذه المدافعة وفي الأسباب التي تبنى عليها الآراء التي تلزم للحكومة بمعرفة لجنة تشكل لهذا الغرض مع إبقاء نواب عنها في النظارات بصفة رؤساء أقلام قضايا (راجع ديباجة الدكريتو) الصادر في 20 إبريل سنة 1884.
[(26)] قال رياض باشا رئيس مجلس النظار في تقريره السابق ذكره المقدم منه إلى سمو الخديوي وأما قومتيه مستشاري الحكومة فإنها قامت بأداء جميع الخدمات التي كان متوقعًا أداؤها منها وقد اتفق مجلس النظار رأيًا على أن يحيط جنابكم السامي علمًا بالمهمة الدالة على نباهة ودراية أعضاء القومتيه المذكورة الذين لم يفتروا على بذلها في تأدية الوظائف الصعبة التي أحيلت على عهدتهم.
[(27)] راجع المادة الخامسة من دكريتو 24 مايو سنة 1885 المعدل بدكريتو 4 ديسمبر سنة 1892 (تأديب الموظفين الملكيين)، والمادة الأولى من دكريتو 24 ديسمبر سنة 880 عزل المحكمة التأديبية العليا، والمادتان الأولى والثانية من دكريتو 6 يونيو سنة 1890، والمادة العاشرة من دكريتو 11 يناير سنة 1897 (تأديب أعضاء النيابة)، والمادة الأولى من دكريتو 7 مارس سنة 1891 (تأديب موظفي المحاكم الأهلية والنيابة)، والمادة الأولى من دكريتو 29 مايو سنة 1893 (تأديب موظفي البوليس)، والمادة الأولى من دكريتو 7 مارس سنة 1895 (مجلس التأديب المخصوص لوزارة الحربية)، والمادة الثالثة من القانون نمرة (9) سنة 1919 (تأديب موظفي وزارة المواصلات ومصلحة السكك الحديدية)، والمادة الأولى من دكريتو 17 إبريل سنة 1919 (تأديب موظفي وزارة الأوقاف).
[(28)] راجع تقرير المستشار القضائي عن سنة 1902 (صحيفة نمرة 42 بشأن أسباب تعديل نظام اللجنة الاستشارية وفيه اعتراف من المستشار القضائي بأن هذا التعديل كان الغرض منه الرجوع إلى تشكيل اللجنة الأصلي).
[(29)] راجع تعزيزًا لإبداء تلك الاقتراحات تقرير المستشار القضائي نمرة (1899) صحائف 15 - 17.
[(30)] راجع في هذا الصدد آخر تقرير للمستشار القضائي (برونيات) عن سنة 1916.
[(31)] راجع على الأخص تقارير اللورد كرومر عن سنة 1904، وسنة 1905، وسنة 1906 ومذكرة المستر برونيات المرفقة بتقرير سنة 1904.


          

رقم الصفحة : (1) من إجمالي  1

            


 
 
الانتقال السريع          
  الموجودون الآن ...
  عدد الزوار 3704 / عدد الاعضاء 62